عن «المستعمرة» وشخصياتها العجيبة! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 29 يونيو 2025 12:20 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

عن «المستعمرة» وشخصياتها العجيبة!

نشر فى : السبت 28 يونيو 2025 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 28 يونيو 2025 - 8:00 م

روايةٌ جديدةٌ مدهشةٌ بشخوصها وأجوائها، وبقدرة مؤلفتها على استعادة السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين، وتأمّلها لعالم مغلق هامشى غير مطروق، مع أنه المكان الذى يضىء الإسكندرية بالكهرباء. نعيش فترة قصيرة فى عمر الزمن، ولكننا نراها بالعمق، صوتا وألوانًا وحياة نابضة بالحركة.
اسم الرواية الصادرة عن الكتب خان هو «المستعمرة»، ومؤلفتها الطبيبة أسماء الشيخ التى لفتت نظرى بقوة فى روايتها الأولى «مقهى سيلينى»، وكانت تتأمل فيها ببراعة ثنائية الحلم والواقع، من خلال علاقة أسرتين إيطالية ومصرية فى الإسكندرية فى الأربعينيات من القرن العشرين. والآن، تختبر أسماء علاقة الهامش بالمدينة فى منطقة يسكنها العاملون فى محطة كهرباء أبى قير، على حافة حدود البحيرة والإسكندرية.
يُعاد بعث عالم غريب كامل عبر شخصيات تكاد نراها من دقة رسمها، مع حضور قوى للمكان، سواء فى مساكن العمال، أو فى القرى المحيطة، لأننا فى نقطة التقاء غريبة بين الصحراء والبحر والأرض الزراعية، ووسط مفارقة تطل برأسها دائمًا، فالمستعمرة جالبة النور تتخبط شخصياتها فى متاهة حياة فقيرة وشحيحة المسرّات، وبحرها يبتلع النفايات التى تلقيها المصانع، والخطر كامن فى محطة الكهرباء، وفى حياة تدور حول نفسها، ولا تتقدم للأمام، والأحلام محاصرة بواقع خشن وصعب، خاصة فى عالم الشخصيات النسائية.
اختارت أسماء أن تسرد عبر صوتين ذاتيين، وراوٍ عليم يملأ الفراغات، الصوت الأول تمثّله «جهاد» طالبة الثانوى ابنة مهندس محطة الكهرباء، والصوت الثانى هو «عبد الرسول»، طبيب الوحدة الصحية القادم من الإسكندرية، وربما كنا فى حاجة إلى أصواتٍ أخرى تحكى بنفس هذه الطريقة الذاتية الحافلة بالتفاصيل.
أما الفترة الزمنية؛ فهى لا تتجاوز سنوات المرحلة الثانوية لجهاد فى بداية الألفية الثالثة، وصولًا إلى النجاح، والحصول على الثانوية بتفوق، ومغادرة المستعمرة، بعد نقل والد جهاد إلى الإسكندرية. وبينما تمنح محطة أبى قير النور للمدينة الكبيرة، فإن الرواية تبدأ بمفارقة صارخة، وهى حدوث عطل يطفئ النور، ومنها ينطلق السرد لإضاءة طوفان من الشخصيات التى تحمل أسماء غريبة، فالطالبة اسمها جهاد حسام أبو جهل، والمهندس اسمه عبد الرسول كويله، والشيخ الذى يقرأ القرآن ويصنع الأحجبة اسمه محمود برغش، وأحد المهندسين يدعى خميس خرابة.
تعلن هذه الأسماء منذ البداية عن التفرد والمفارقة، وتجعل للمجتمع خصوصية شكلية، قبل أن نلمس هذه الخصوصية كاملة عندما نعرف تاريخ كل شخصية، وتصرفاتها، وعالمها المحدود، وطموحها المقيّد بسقف المكان والزمان.
وبين أحلام فتاة على الحافة بين الطفولة والأنوثة، وأزمة طبيب مهزوم على الحافة بين الماضى والحاضر، تبدو المستعمرة مثل جدارية هائلة مكتظة بالشخوص والحكايات، ورغم وجود أحداث عالمية كبرى مزلزلة فى تلك السنوات، مثل الهجوم على مركز التجارة العالمى، وسقوط بغداد، إلا أنها تظل مجرد أصداء بعيدة لعالم المستعمرة المنغلق على وقائعه، وإن كان هذا العالم سيتخلخل فى النهاية، وستبدأ عدة شخصيات فى الخروج منه.
لا تقتصر دقة رسم الشخصيات والأحداث على ما يجرى فى المحطة فقط، ولكنها تمتد كذلك إلى بيت أسرة جهاد، وإلى مدرستها بكل صخبها ومغامراتها، بل ونرى عالم القرى الفقيرة للغاية على حافة المستعمرة، وكأننا أمام خريطة متعددة الألوان، تسبح فى زمن متغيّر، بينما لا تتغير ظروف الشخصيات، ولا تتحسن أحوالهم، ولا يطرأ الكثير على معتقدات راسخة، ترسم حدودا صارمة بين الرجل والمرأة، وبين المهندس والعامل، وبين الحلم والواقع.
وفى قلب الصورة شخصيات نسائية محاصرة بعيون متشككة، ومطاردة بهاجس الإنجاب أو العقم أو العقاب أو «اقتناء» الزوج لزوجة جديدة.
فى قلب الصورة أيضًا اتجاهات دينية شكلية متشددة، واختلاط الحابل بالنابل، وانفتاح العالم المغلق على الإنترنت، وفراغ هائل يبحث عمن يشغله، لنكتشف فى النهاية أن حكايتنا ليست فقط عن مكان اسمه «المستعمرة»، ولكنه بالأساس عن شخصيات مستعمرة بالقلق والقهر والحيرة والتيه، وعن معنى أن تكون مسكونًا بمخاوف شتى، دون مخرج، أو طوق للنجاة.
لا يقال ذلك مباشرة، ولكن من خلال نسيج محكم من الحكايات التى تتكاثر، وعبر تكنيك يعزل الشخصية لدراستها بمفردها، ثم يعيدها من جديد فى تفاعلها مع الشخصيات الأخرى. وفى حين تدخلنا حكاية انقطاع النور عن المستعمرة إلى عالمها الكبير، فإن مصرع إحدى الشخصيات أثناء إصلاح أحد التوربينات، يدفع السرد والحكايات فى النصف الثانى من الرواية، وهكذا ننتقل دائمًا من المساكن إلى المحطة، وبالعكس، فكأنهما عالم واحد بوجهين.
ربما كان السرد بحاجة إلى حبكة أكثر تماسكًا، بحدث واحد كبير، بدلًا من حل لغز انقطاع التيار مبكرا، ثم ظهور حادث مقتل الشخصية أمام التوربين، مما أدى إلى انشطار النص إلى قسمين، وربما جاء ظهور صوت الطبيب عبد الرسول متأخرًا قليلًا، بينما أراه العمود الثانى المحورى بالتوازى مع صوت جهاد.
حدث أيضًا نوع من الارتباك والتشويش بين سرد جهاد، وسرد عبد الرسول، وسرد الراوى العليم، وكان من الأفضل استخدام الشخصيات فى دفع السرد إلى الأمام بدلًا من عزلها أحيانًا. لكن الرواية احتفظت - فى النهاية - بقوة تأثيرها، بسبب تلك اللفتات الذكية، والتفاصيل الإنسانية، وبهذه الأجواء المفعمة بالحنين لسنوات مطلع الألفية الثالثة، طقوسًا وغناء وبهجة وأحلام، رغم كل الظروف.
لا يوجد تنميط لأى شخصية، لأننا أمام الإنسان بتركيبته المعقدة، وباكتشافه لمدى هشاشة وجوده، وعندما تهرب جهاد إلى جنة الكتب، وعندما تكتشف وضعها المؤلم كأنثى فى مجتمع محافظ، وعندما تقوم بدور الأم لأخيها وأختها، فإنها تترجم لنا ذلك التعقيد حتى فى مرحلة تكوّن الشخصية.
لا يتحقق الكثير على المستوى الشخصى، فقد يكون الانتصار فقط فى مجرد استمرار الحياة، أو فى دفع المتاعب بعيدًا كما يفعل أبو جهل. أو قد يكون الانتصار فى منح الإسكندرية بعض النور، بينما يبقى سكان المستعمرة فى الظلام، فى انتظار لحظة الفرار بعيدًا عن بحر النفايات.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات