الزمالك مهالك - سيد محمود - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 3:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الزمالك مهالك

نشر فى : الثلاثاء 28 يوليه 2020 - 8:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 28 يوليه 2020 - 8:00 م

على الرغم من أن الشاعر الراحل الكبير أحمد فؤاد نجم كتب قصيدته الشهيرة (يعيش أهل بلدى) بنبرة تهكمية على سكان حى الزمالك إلا أن القصيدة فيها بضعة أبيات تصلح للتعاطف مع سكان الحى العريق بعد ما أصابهم من خوف وذعر جراء التصدعات التى أصابت عمارة الشربتلى قبل ثلاثة أيام بسبب أعمال حفر مترو الأنفاق.
يقول نجم: (وحى الزمالك / مسالك مسالك / تحاول تفكر تهوب هنالك تودر حياتك، بلاش المهالك) وبعد الحادث الأخير استقرت أمامنا نصيحة نجم وأصبح الخوف من المهالك سمة تهدد سكان الحى الذى كان السكن فيه أمنية تشغل بال كل راغب فى حياة هادئة وراقية.
لكن ما تقوله واقعة عمارة الشربتلى إشارة لتصدع أكبر امتد من العمارة إلى العمران البشرى وهذا هو ما ينبغى التفكير فيه والبحث عن آلية للتعامل معه خاصة وأن مشروع مترو الأنفاق أصبح واقعا لا مهرب منه.
وما حدث هو إشارة أولى نرجو ألا تعقبها إشارات أخرى تؤكد صحة المخاوف التى سعى سكان الحى لطرحها على الرأى العام وجرى السخرية منها بإضفاء طابع طبقى على محتواها فى حين كانت تسعى للحفاظ على الطابع العمرانى المميز للجزيرة ولفت الأنظار إلى المخاطر المحتملة.
وللأسف تم تجاهل مبادرات سكان الحى وضرب عرض الحائط بفكرة طرح فكرة محطة المترو للنقاش المجتمعى واعتبرت الاعتراضات (رفاهية طبقية) رغم أن المشورة من أسس العمران البشرى.
والعمران البشرى الذى كان ابن خلدون أول ما حدثنا عنه تنظيرا أشمل فى معناه من معنى العمارة لأنه يمتد ليشمل خصائص وتفاصيل الحياة اليومية التى انقلبت رأسا على عقب فى هذا الحى الذى كان هادئا ولم يعد كذلك.
ومن المفارقات التى تثير الأسى أن جهاز التنسيق الحضارى التابع لوزارة الثقافة أصدر الأسبوع الماضى كتابا مهما عن (جزيرة الزمالك القيمة والتراث) ووصلتنى النسخة التى أهداها لى مشكورا رئيس الجهاز المحترم المهندس محمد أبو سعدة فى اللحظة التى قرأت فيها خبر تصدع عمارة الشربتلى وهى مفارقة تثير الأسى.
والكتاب الذى يبدو أقرب إلى ألبوم مصور عن تاريخ الجزيرة أعده خبراء فى العمارة والتراث يجدد الحاجة للتفكير فى واقع (الزمالك) ومستقبله، فالحى يعيش انقلابا قيميا منذ نحو عشرين عاما حين بدأ صراع السكان الأصليين مع المعاناة بعد أن فقد المكان رصيده الطبقى والتاريخى وأخذت امتيازاته فى التراجع أمام امتيازات مجتمعات (الكومباوند) التى كانت تنشأ فى الصحراء على أطراف القاهرة.
وكان من السهل طوال السنوات الماضية تأمل صور فقدان المكانة التى عانى منها الحى بعد سهولة الحصول على تراخيص لافتتاح المقاهى والمطاعم التى غيرت تماما من معالمه وحولتها إلى أطلال ونجح رأس المال فى اغتصاب جميع صور الجمال القديم لصالح قيم وأشكال استهلاكية نجح فى إقرارها. وأصبح أى ركن فى كل شارع مشروعا استثماريا قائما أو محتملا.
ويذكر سكان الحى وعشاقه أشكال المعاناة التى تجلت مع ظهور أول مركز تجارى كان بمثابة جرح حقيقى تحول تدريجيا إلى (نتوء) أصاب جسد الجزيرة بطعنة لم تندمل إلى الآن، فلا هو مركز تجارى ولا هو خرابة أو طلل بل هو خاذق ينافس (البرج الخازوق) الذى يطعن قلب الجزيرة لأن من أسسه نسى الالتزام بالقانون وشروط تأسيس (الجراج).
وعلى الرغم من جميع محاولات التعافى التى حاول سكان الحى استنهاضها بالعديد من المبادرات التى كانت أقرب إلى محاولات إفاقة لإعطاء الحى القديم (قبلة حياة) إلا أنهم رفعوا فى النهاية (الراية البيضا) بعد تمدد (سرطان) التعديات على ذاكرة المكان فلا هم تمكنوا من هزيمة الخازوق ولا نجحوا فى حسم معركة تفريغ مخلفات المراكب العائمة.
ويكفى للسائر أن يلقى نظرة على شارع ٢٦ يوليو ويقارن حالته مع صوره القديمة التى تغمر صفحات مواقع التواصل الاجتماعى ليدرك حجم الكارثة التى تشترك فيها أيادٍ كثيرة بدعوى الاستثمار التى لا تصمد أمامها كل أفكار التنسيق الحضارى وجهوده التى تهزم يوميا بالضربة القاضية الفنية.
والأسوأ أن الزمالك يا مؤمن يعانى من تكالب مؤسسات وهيئات كثيرة تسعى كلها لإجبار الحى على أن يتساوى بأحياء القاهرة الأخرى، أنها معركة تتساوى الرءوس، كأننا لم نعد قابلين لأى جمال وعاجزين حتى عن التعامل مع تاريخه، لدرجة أن النيل الذى كان يحيط بهذه الجزيرة كسوار يزيدها من جمالها تحول هو الآخر إلى نهر آخر من الضوضاء تحملها المراكب النيلية التى تحولت من مراكب شراعية إلى أخرى تعمل بمواتير وبخلاف التلوث التقليدى صارت تحمل أصواتا مزعجة وتحفل بكل صور التلوث السمعى البصرى التى تتواصل بلا رحمة منذ الخامسة عصرا وحتى الخامسة صباحا.
لتؤكد لنا حتى مطلع الفجر أن الغزو مستمر وأن مسلسل (الراية البيضا) متواصل.