زياد الذي تسمم بالحكمة - سيد محمود - بوابة الشروق
الأربعاء 30 يوليه 2025 11:23 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

زياد الذي تسمم بالحكمة

نشر فى : الثلاثاء 29 يوليه 2025 - 7:05 م | آخر تحديث : الثلاثاء 29 يوليه 2025 - 7:05 م

 لا يمكن حصر الخسارات الناتجة عن موت زياد الرحبانى بالنسبة لمن ارتبطوا بموسيقاه التى شكلت مساحة كبيرة فى ذاكرة جيلى. 

أتذكر جيدا يوم أن استمعت لأغنية (ع هدير البوسطة) كان ذلك فى عام 1987، ومثل رفاقى الذين كانوا حولى فى المدرسة تعلقنا باسم (عالية). 

وقتها لم نكن نعرف أن البوسطة هى الأتوبيس الذى يمر فى القرى اللبنانية وأن الأغنية أقرب لحكاية عن نظرة حب باقية فى ذاكرة صاحبها كما أن روح الكاريكاتير التى سادتها غمرتنا بفيض من السحر.

ظلت أغنية (وحدن) هى الأقرب أكثر من أية أغنية أخرى، ربما لأننا كنا نستعد لاستقبال العالم بوعى شعرى صافٍ تحيطه النزعات الرومانسية، كنا ندير شريط الكاسيت مئات المرات فى اليوم الواحد بلا ملل أو كلل. 

نكتب الكلمات خلف فيروز ونحاول استبطان معانيها التى كانت مغلقة آنذاك فلم تكن حصتنا من المحكية اللبنانية تعين على الفهم وليس لدينا محرك بحث أو شاشة فضائية تؤهلنا لذلك، كانت الحصيلة التى وفرها فريد الأطرش فى أفلامه غير كافية للفهم.

فهمنا فيما بعد أن الأغنية تلويحة وداع للشهداء وهى مسألة أثرت فينا ربما أكثر من شريط (الجوع كافر) الذى وصل إلينا فى وقت لاحق وكانت نبرته الغاضبة أقل رقة من أعمارنا آنذاك.

أثر فينا زياد كثيرا لأننا ونحن فى مقتبل العمر قدَّرنا التزامه الأخلاقى تجاه الشهداء لكن على الصعيد الموسيقى كانت (قفلة) اللحن مذهلة لدرجة أنى حين التقيت زياد بعدها بـ 30 سنة للمرة الأولى لم أسأل إلا عنها وقال لى كلامًا أهم ما فيه إنه تورط فى البناء الموسيقى وظل عاجزا عن بلوغ النهاية ولم يكن أمامه سوى استشارة الملحن الكبير فيلمون وهبى الذى أهداه الحل من القالب الشرقى.

مع تزايد فرص نسخ شرائط زياد اكتشفنا طاقته على التمرد وتبين لنا فى مسار آخر ملامح مشروعه المسرحى الذى ظل مجهولا فى مصر ربما إلى الآن، لأن غزارة الإنتاج المصرى ورسوخ تقاليده تخلق هذه المسافة السلبية مع إنتاج من هم خارجها من باب الشعور بالاكتفاء أو الامتلاء وربما لحاجتنا إلى صهر تلك التجارب داخل حدودنا. 

تمكن زياد فيما بعد من تحقيق معجزته الكبرى فى اختراق هذا الحاجز وحققت ألبوماته مع فيروز أرقامًا قياسية فى التوزيع مثل (معرفتى فيك) ثم (كيفك انت) الذى أصبح كلمة الفصل فى الإقرار بعبقريّة زياد وكان ذلك فى مايو من عام ١٩٩١ حيث ظل الشريط يدور بلا توقف فى غرفنا لأيام طويلة وسط انقسام حاد ما بين مؤيد ومعارض وبعد أقل من 3 أيام أصبح بمثابة نشيد قومى للجميع كما صارت أغنية مثل (عندى ثقة فيك) أفضل جملة غزل يمكن أن تقدمها لكسب رضا من تحب.

أستطيع الآن تذكر الأماكن والأصدقاء الذين استمعت معهم لشرائط زياد للمرة الأولى ولا يعود السبب لذاكرتى القوية وإنما لأن أثر الموسيقى رافقنى وصار معى. 

 حين تحسنت معرفتى بالمحكية اللبنانية لعملى فى الصحافة الأمر الذى أتاح لى قراءة صحف بيروت بانتظام عبر الإنترنت ما ساعد على إدراك ما يتمتع به زياد من مكانة فى بلده تختلف عن المكانة شبه المقدسة التى تحظى بها عائلته.

خلال زيارتى الأولى لسوريا اكتشفت أنه حاضر فى التفاصيل مثل نكتة تباغتك وربما مثل السباب الذى تتقبله، فهو فى دمشق مثل الأمل بعيد لكن صوته لا ينقطع من الشارع أبدا.   

أما فى بيروت فهناك حكاية عن زياد لدى كل من تقابله، قصصه مع دلال وكارمن لبس، والاستديو الذى يعمل من داخله نهاية شارع الحمرا وبار البارومتر المغمور بصوره وصداقته الباذخة مع جوزيف صقر ثم جوزيف سماحة الذى سبقه إلى الموت وخذله مثل أبيه وشقيقته ومثل جوزيف الأول.

تحولت المسارح التى أطل منها إلى مزارات سياحية، كما أصبحت أسطواناته المنتهكة هدية رئيسية ينبغى أن يحملها كل من يمر فى شارع الحمرا، ثم عادت صورته إلى الشارع ومعها مقولاته إلى الجدران التى تعكس حالة الكرنفال التى صنعها على امتداد تجاربه فهى صحيفته التى تعمل غضبه ونفوره من الجميع. 

جسد زياد دون أن يدرى طوال مسيرته المعانى التى كتبها الشاعر العظيم صلاح عبدالصبور فى قصيدته الباذخة مرثية رجل عظيم (كان يريد أن يرى النظام فى الفوضى وأن يرى الجمال فى النظام، كان نادر الكلام كأنه يبصر بين كل لفظتين أكذوبة ميتة يخاف أن يبعثها كلامه وكان فى المساء يطيل صحبة النجوم ليبصر الخيط الذى يلمها مختبئا خلف الغيوم ثم ينادى الله قبل أن ينام: الله هب لى المقلة التى ترى خلف تشتت الشكول والصور تغير الألوان والظلال، خلف اشتباه الوهم والمجاز والخيال وخلف ما تسدله الشمس على الدنيا وما ينسجه القمر حقائق الأشياء).

هذا بالضبط ما بلغه زياد حين جسد قصد صلاح عبّدالصبور تماما وهو يصف صديقه العظيم قائلا: لم يبصر منا أحدا، سالت من ساقيه البهجة وارتفعت حكمته حتى مست قلبه؛ فتسمم بالحكمة). 

عند وداعه اختطف زياد قلوب الجميع كطفل يلهو فى فناء مدرسة، وانتزع من عيونهم دمعة وهو يعبر الطريق. 

يكفيه أن الطائفية غابت فى وداعه وخفقت خلفه الصدور كأنه صار راية أو علما.