إن عضو الكنيست أيمن عودة تعرّض للاعتداء فى الشارع، وسط تهليل من عضو كنيست آخر فى إسرائيل. وفى مراسم حداد مشتركة فى رعنانا، تعرّض مشاركون – يهود وفلسطينيون – للضرب وسط هتافات «خوَنة». وجرائم القتل اليومية فى المجتمع العربى تُقابَل باللامبالاة. وأصبح عنف الشرطة ضد المتظاهرين أمرا روتينيا، فالخطوط الحمراء تم تجاوُزها منذ زمن، وبات الشارع الإسرائيلى يبدو كأنه ساحة معركة. لم يعد العنف وسيلة نستخدمها فى غزة والضفة الغربية فقط، بل أصبح هوية. لم يعد فقط فى الجبهة، بل هو هنا بيننا: فى الشوارع، والمدارس، والسياسة، والإعلام، وفى الشرطة، والقضاء، وفى العائلة، واللغة. لقد أصبح العنف عادةً، ويكاد يكون حاجة.
إن الدولة ليست هى المسئولة فقط، بل المجتمع. فالمجتمع الإسرائيلى يراقب منذ شهور طويلة كارثة إنسانية مستمرة خلف الجدار: عشرات آلاف القتلى، بينهم رُضّع، مخيمات لاجئين دُمّرت، موت، إبادة. صور الفظائع لا تثير مشاعر القلب، بل هناك مَن يستقبلها برضا، ما دامت توصف بـ«المبرَّرة».
نشاهد طفلة تهرب والنيران تشتعل فى جسدها من خيمة قُصفت فى منطقة تُعتبر «آمنة»، ويأتى السؤال من إسرائيليين: «هل كان هناك خطأ؟» ولا يسألون: ما الذى حدث هناك؟ مَن مات؟ فقط: هل ينطبق ذلك على معايير المتحدث باسم الجيش؟ فى الضفة، يتصاعد العنف اليومى: قتل – حتى للأطفال – وإحراق منازل وسيارات، وتهجير جماعات، واعتداءات، وسط صمت الجيش. وأيضا هنا، من دون تقارير، أو محاسبة.
هذا العنف لا يبقى فى غزة والضفة، بل يتسلل إلى داخلنا ويصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا. والجمهور اعتاده، لقد تحجّر. لم يعد العنف ردة فعل، بل أصبح غريزة، وإدمانا، والإدمان لا ينشأ من الشر، بل من الشعور بالعجز. العنف يمنح تحكّما لحظيا، ووهما بالأمان، ونشوة قوة، وانتقاما. يخفف الخوف والألم والعار. لكن، شأنه شأن الإدمان على المخدرات، فكلما اشتد الألم، كلما ارتفعت الجرعة.
هكذا، يصبح المجتمع يعتمد على القوة ليشعر بأنه موجود. هذه ليست فقط لا مبالاة، بل أيضا قطيعة فى مكان لا وجود فيه للمشاعر، بل للعنف الذى يحلّ مكانها. ربما هذه هى الطريقة الوحيدة التى لا تزال تجعل المجتمع الإسرائيلى «يشعر» بشىء. ربما يُستخدم العنف كتعويض عاطفى، كوسيلة لمواجهة ألم لا يُحتمل، من خلال الحزن والخوف وعدم اليقين، وضحاياه كلّ مَن لا ينتمى إلى «الإسرائيلى الصالح»: العرب، والمتظاهرون، والنساء، والعمال، والأجانب، والمثقفون. كلّ مَن يخرج عن صفّ الحكومة.
حتى اللغة نفسها أصبحت ساحة معركة. وعبارات، مثل «التصفية» و«التسوية بالأرض» و«العودة إلى العصر الحجرى» و«حرق الأعشاش»، ليست مجرد أوصاف عسكرية. إنها لغة التخدير الأخلاقى، كلمات تُسرّع الفعل وتُدحرج العنف إلى داخل حياتنا اليومية. هذه لغة مجتمع يقمع إنسانيته، ويسعى لتفسير كل شىء بأنه ردة فعل ضرورية، ويفقد القدرة على السؤال: ماذا نفعل؟ وما الذى حدث لنا؟ ويجب طرح السؤال الذى يتجاوز قضايا الأمن والأخلاق: ليس فقط ما نفعله فى غزة، بل أيضا ما تفعله غزة بنا.
بناءً على هذا كله، ليس من قبيل الصدفة أن يُعتدى على عضو كنيست عربى فى الشارع، ويتلقى المعتدى دعما من عضو كنيست آخر؛ ليس من قبيل الصدفة أن تتعرض عائلات الأسرى وعائلات الثكالى فى الحرب لهتافات «خونة»؛ ليس من قبيل الصدفة أن يتحوّل كل نقاش تقريبا فى إسرائيل إلى تهديدات وصراخ وعنف. هذا كله ليس «تطرّفا» سياسيا فقط، بل هو معركة على الوعى وثقافة قوة وإدمان عميق على العنف تجاه الآخرين، وتجاه أنفسنا، وكل مَن يظن أنه يستطيع استخدام العنف ضد الفلسطينيين من دون أن يعود هذا العنف ويحرقنا من الداخل، فهو واهم، أو يكذب على نفسه.
كيف نتعافى من العنف؟ أولا، يجب الاعتراف بأنه إدمان. يجب أن نفهم أن الهوية الإسرائيلية المعاصرة تعتمد على القوة، لا على الرحمة، ولا على الأخلاق، ولا على الحقيقة. علينا أن نتوقف عن تفسير كل شىء بأنه «ضرورة أمنية»، أو «رد انتقامى»، أو لا مفرّ منه.
بعد ذلك، علينا أن نعلّم أنفسنا من جديد كيف نشعر. أن نجرؤ على الشعور، ليس فقط بالخوف والحزن، بل أيضا بالخزى والذنب. هذه المشاعر هى التى تبدأ بها التغييرات. والخطوة الثالثة هى العمل على تغيير المسار، أن نتوقف عن طلب الشرعية الدولية من أجل استمرار القتل، وأن نفهم أن هذه الحرب يجب أن تنتهى، وليس فقط وقف إطلاق نار.
إن إسرائيل بحاجة إلى التعافى، ليس فقط من الحرب، بل أيضا من الحاجة إليها. يجب أن يأتى يوم يمكننا فيه النظر فى المرآة ورؤية ما فعلناه – ليس فقط ما فعلناه بالآخرين، بل بأنفسنا. قد يكون فات الأوان لإنقاذ ما فعلناه بالآخرين. لكن لم يفُت الأوان بعد لإنقاذ أنفسنا مما نفعله بأنفسنا. طالما نواصل الاعتقاد أن العنف يحمينا، لن نفهم أنه يسيطر علينا، وأنه يعود ليضربنا من كل مكان نمارس فيه العنف.
يهوديت كارف
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية