كثيرا يتم استخدام تعبير «نظام regime» بشكلٍ سلبى من قبل الصحافة وبعض من يدعون الجدية كإشارة إلى أنظمة الحكم الاستبدادية وحدها. هذا الاستخدام غير موفق؛ حيث يأخذ فى الأذهان إلى ضده المباشر، أى الفوضى، ودون أن يدفع نحو صورة أنظمة حكم تصون الحريات وتعدِل بين المواطنين والمواطنات. الأمر ذاته عند التعبير باللغة العربية أم بلغات أخرى.
الإشكالية الرئيسة بهذا الخصوص تبرز فى طريقة توصيف أنظمة الحكم، أى العلاقة بين السلطة السياسية والمجتمع وكذلك الدولة كمؤسسة أو مجموعة مؤسسات تقوم بالخدمات العامة وتحمى سيادة البلاد. والمفهوم المتاح فى هذا التوصيف هو السلطة، بقدر ما يشير مفهوما المجتمع والدولة بوضوح إلى ماهيتهما. فالنظام الاستبدادى يفرض نفسه قسريا على المجتمع ولا يسمح بالتداول السلمى على السلطة السياسية، أى على قيادة مؤسسات الدولة المناط بها السهر على مصلحة البلاد والمجتمع وتبعا لخياراته هو بنفسه لقياداته ولتوجهاته لفترة معينة.
بالمقابل، الأنظمة المدعوة ديموقراطية لها أيضا مشاكلها الكبرى؛ إذ لا يكفى أن تكون هناك بعض الحريات العامة وانتخابات لانتفاء الهيمنة على المجتمع وتقويض الدولة كمؤسسة لخدمة واستمرار سلطة بعينها. ومن الآليات المشهودة التى تستخدمها السلطات القائمة هناك استنفار التناقضات الاجتماعية، وخاصة التناقضات العرقية والطائفية والمناطقية، لخدمة مصالحها. كما عملت السلطات المعنية، بغية استمرارية نفوذها، على تقويض الدولة كآلية مؤسساتية تقوم على قواعد دستورية وقانونية تساوى نصوصها شكليا بين المواطنين والكفاءات.
هكذا جرى ابتكار مفهوم هجين، سميَ «الأنوقراطية»، للدلالة على أنظمة حكم تمزج بين بعض خصائص الاستبداد والديموقراطية على السواء، والتى تسمح بشىءٍ من المشاركة الاجتماعية عبر تواجد معارضة فى الانتخابات ولكن دون اكتمال الآليات كى تسمح برفع المظالم.. عن المجتمع. وقد دُعيَت الأنظمة «الأنوقراطية» بنصف ــ ديموقراطية أو بـ«ديموقراطية موجهة»، كنقيضٍ للديموقراطية المدعوة «ليبرالية»، التى تقوم على فصل السلطات فى الدولة وسيادة القانون والحريات العامة.. واللافت أن كثيرا من أنظمة الحكم التى نشأت بعد انتهاء الحرب الباردة وصفت بـ«الأنوقراطية» وكذلك تلك التى نشأت بعد ما يسمى «الربيع العربى»، بحيث انتشر هذا التوصيف على كثيرٍ من البلدان.
كل هذه التوصيفات هى تنويعات حول مفهوم «السلطة»: إذ تُعرَف الديموقراطية على أنها سلطة الشعب، والاستبداد، الأتوقراطية، أنه السلطة لذاتها، و«الأنوقراطية» أنها «دون الهيمنة» (!). ما يعنى أن أنظمة الحكم لا يُمكِن وصفها إلا من خلال وصف العلاقة بين السلطة من جهة، والمجتمع والدولة من جهة أخرى.
• • •
هكذا تختلف التوصيفات حول مفاهيم أنظمة الحكم، لكن تبقى الصراعات السياسية هى بطبيعتها صراعات على السلطة. سلطة على المجتمع أولا، ومن خلال ذلك سلطة على الدولة كمؤسسة. فى حين أن قيادة الدولة فى ظل «سلطة الشعب» ليست سلطة بقدر ما هى مسئولية محدودة المدة يحاسَب صاحبها عليها. فى حين أن السلطة تعمل لذاتها، بما تضمنه لصاحبها من امتيازات. تُنتِج وتعيد إنتاج ذاتها.. مهما كان نظام الحكم فى أغلب الأحيان.
وتحتاج السلطة لفرض هيمنتها واستمراريتها إلى ثلاثة عوامل أساسية: ريعٌ مالى تشترى به الولاءات وتناقضات اجتماعية، موروثة أو مستحدثة، تستخدمها أيديولوجيا لاستنفار هذه الولاءات، ومؤسسات دولة مقوضة البنية والصلاحيات لا يُمكن لها كبح جموح السلطة.
الريع المالى يَنتُج عن هيمنتها على احتكارات أو على موارد محلية أو عن تبعيتها لسلطات خارجية ثرية ترفِدها به لخدمة مصالح هذه الأخيرة. وبالتالى تُهيمن على وسائل إعلام أو على سبل إيصال فئات اجتماعية إلى خدمات عامة. أمورٌ لا يُمكِن حدوثها بوجود دولة مؤسسات قادرة تقوض الاحتكارات وتقوم بالتوزيع العادل للموارد وتضمن الخدمات العامة لجميع مواطنيها دون استثناء أو تفضيل. كما تُحصن ضد المال الخارجى. وقضية الريوع المالية هذه أبعد بكثير من مفهوم «الفساد» الذى يأخذ أبعادا أخلاقية ومشهدية أكثر منها قانونية.
أما التناقضات الاجتماعية فقد تكون موروثة مبنية على العرقية أو الإثنية أو الدينية أو المذهبية أو المناطقية أو حتى على الزعامات المحلية، أو قد تكون مستحدثة بين سكان البلد «الأصليين» وأولئك القادمين «الجدد» من أصولٍ أخرى، ليس فقط اللاجئون، بل حتى لو كانوا مقيمين منذ زمنٍ طويل وحصلوا على جنسية البلاد. فلا بد للسلطة من شد «عصبيات» لفرض الهيمنة لتغطية مشهد شراء الولاءات القائم على مبدأ «فرِق تسُد».
• • •
بالطبع كلما كانت مؤسسات الدولة ناشئة أو خضعت لتغيرات «انقلابية» كبرى أو لتقاسم النفوذ عليها، كلما ضَعُفَت فى فرض صالحٍ عام وحتى فى تطبيق دساتير وقوانين لا يُمكِن صياغتها صراحة كى تضمن هيمنة السلطة، كأن يكون هناك حزب قائد أو رئيس أو ملك لا يخضع هو نفسه للدستور. بل الأسوأ عندما يتم تفكيك آليات ضبط الدولة العريقة فى مؤسساتها بحجة «الليبرالية» و«حرية الأسواق» بحيث تتضخم الريوع الاقتصادية وتتمركز الثروة بأيدى قلة تضيق وتضيق.
قد لا تتمثل السلطة بشخصٍ وأسرة بعينها، تجتمع لديها جميع العوامل السابقة، كما فى سوريا، بل قد تتوزع على مجموعات صغيرة، كلٌ منها يسيطر على مورد ريع وتناقض اجتماعى رئيسى ويستفرِد بالهيمنة على جزءٍ من مؤسسات الدولة، كما هو الحال فى لبنان. الفارق أن النموذج الثانى يسمح بشىءٍ من الحريات. هذا فى حين يُمكِن أن تتشكل السلطة فى الدول ذات المؤسسات الأكثر رساخة حول ما بات يسمى «الدولة العميقة» المرتبطة بشكلٍ جوهرى بسلطة المصالح المالية والاقتصادية الكبرى.
جميع هذه «الأنظمة» تتعرض لأزمات، خاصة أن منطق السلطة يدفع إلى تركيز الثروة بيدها دون حدود. هذا يعرضها حُكما لأزمات داخلية مع مجتمعها، وكذلك لأزمة مع سلطات خارجية تتطلع لاستغلال فرصة الأزمة لأهدافٍ تخصها. ولا يعنى هذا حصرا بلدانا كسوريا ولبنان، بل أيضا البلدان الغربية «الليبرالية» اقتصاديا وسياسيا بعد ما تم تقويض دور الدولة الضابط فيها منذ حقبة رونالد ريجان ومارجريت تاتشر.
تُشكِل الأزمات فرصة حقيقية لتغيير واقع هيمنة السلطة. ليس حقا عبر تعابير فضفاضة مثل «إسقاط النظام»، وليس للحلول محلها، بل عبر العمل على تقويض عوامل هيمنة السلطة الثلاث: أى ريوعها، الداخلية والخارجية، ومحاسبتها عليها، وتفريقها للمجتمع عبر توحيده رغم تناقضاته، وصون مؤسسات الدولة وإعادة إحيائها لتحريرها من الهيمنة وجعلها قادرة على حماية المجتمع. مشروع سياسى ليس سهلا.. ولكنه السبيل الوحيد للخروج من «المأزق الخانق».