دروس لسوريا من التاريخ القريب - سمير العيطة - بوابة الشروق
الأحد 25 مايو 2025 10:38 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

دروس لسوريا من التاريخ القريب

نشر فى : الأحد 25 مايو 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : الأحد 25 مايو 2025 - 7:50 م

شكل انهيار جدار برلين ومن بعده منظومة الاتحاد السوفيتى وكذلك هيمنته على دول أوروبا الشرقية حدثا تاريخيا كبيرا، هذا الانهيار كان نتيجة سوء إدارة مزمن للسلطات القائمة فى هذه البلدان وعدم قدرتها على التأقلم مع المتغيرات داخلها وعلى الصعيد العالمى. على عكس ما حدث فى الصين، رغم تشابه العقيدة السياسية للسلطات هناك.

الفوضى كانت سمة المرحلة التى تلت الانهيار، ولكن ليس فى كل الدول المعنية. ألمانيا الغربية قامت بخطوات إدارية جريئة وباهظة التكلفة كى تحقق وحدة ألمانيا. الدول الأخرى كانت أقل حظا نسبيا، حيث جهد رموز السلطة المنهارة على بيع أصول بلادهم إلى استثمارات خارجية هيمنت على أغلب القطاعات الحيوية، وبالتوازى فقدت إدارات البلاد المتعاقبة القدرة على ضبط الفوضى الاقتصادية والمعيشية، ولم تستطع أغلبية هذه البلدان النهوض مجددا سوى من خلال الحد الأدنى من الضبط الإدارى الذى مثله أمل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى وفى نسيج المؤسسات الدولية، لكن دولة القانون، التى تميزت بها دول أوروبا الغربية، لم تترسخ حقا فى جميع هذه الدول... الشرقية حتى الآن، رغم ديموقراطية الانتخابات.

حالة روسيا كانت الأسوأ، حيث سادت فيها الفوضى الإدارية لزمنٍ طويل، وبرز حيتان استثمارات واحتكارات هيمنوا على مقدرات البلاد الهامة، مقابل فوضى أمنية وإفقار لأغلب السكان وغياب الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية. مما جعل مسار العودة إلى استقرار إدارى لضبط «الحيتان» وتأمين حياة آمنة ومعقولة للسكان أقسى وأكثر صعوبة...

• • •

منذ بداية الألفية الجديدة، شهدت العديد من البلدان العربية انهيارات مماثلة، منذ العراق بعد غزوه، إلى ليبيا واليمن وسوريا والسودان بعد... «ثوراتها» التى انتهت إلى حروبٍ أهلية وتفكيكٍ للدول، هذه الانهيارات جميعها يمكن عزوها إلى سوء إدارة السلطات القائمة وعدم فهمها للمتغيرات الداخلية والخارجية وقدرتها على التأقلم معها، لكن تم المزج بين هذه السلطات القائمة، التى رحلت بالنهاية، وبين مؤسسات الدولة التى تم تفكيكها بحججٍ مختلفة... كى تغيب سريعا إمكانيات الإصلاح وضبط الفوضى ودولة القانون... ولو بالحد الأدنى، وما يميز أوضاع أغلب هذه الدول بعد عقدٍ أو عقدين من الانهيار والتغيير... أنها بقيت هشة ومقسمة وخاضعة لفوضى استثمارات الحيتان الداخليين والخارجيين دون النهوض بمستوى معيشة المواطنين ولا بدولة قانون فعلية تؤمن الحريات العامة والخاصة... وقبل الديموقراطية.

فى يناير الماضى، شهدت سوريا انهيارا مماثلا لـ«منظومة الأسد»، انهيارا فتح آفاقا جديدة للسوريين بعد معاناة صعبة وطويلة، لم تتحسن الأوضاع المعيشية للمواطنين سريعا، بل ساءت نسبيا للفئات الأشد فقرا، والتى تشكل الأغلبية، ولم يستتب أمن الوطن والمواطنين حيث ما زال عرضة للانهيار بشكل واسع أمام أى استفزاز داخلى أو خارجى، كما حدث فى الساحل والجنوب، ولم يتم فعليا توحيد البلاد إداريا. رغم ذلك، يدفع الأمل السوريين نحو الانخراط بنشاط ملحوظ فى محاولة النهوض ببلدهم وإرساء مستقبله.

تمثلت إحدى العقبات الأساسية فى العقوبات القاسية التى فُرِضَت على البلاد، خاصة الأمريكية منها، وأدت فى الواقع إلى معاناة المواطنين الطويلة بدل أن «تسقط النظام»، وكان إعلان الرئيس الأمريكى مؤخرا أنه سيزيلها خطوة تحولٍ كبيرة، خاصةً وأنها تخطت آليات كل الأنظمة الإدارية والديموقراطية الأمريكية، وتعززت هذه الخطوة سريعا فى إعفاء عن قيود التعامل مع مؤسسات الدولة السورية، المالية والإدارية، لمدة ستة أشهر ريثما يتم العمل فى الولايات المتحدة على إلغاء القوانين المرتبطة بالعقوبات، إعفاءٌ لا يبدو مشروطا ظاهريا، لكنه كذلك واقعيا، ولكن الأهم أن أمل السوريين قد تعزز بخطوة جديدة.

إلا أن هذه الخطوة الملحوظة تضع السلطات القائمة أمام تحديات جديدة... خاصةً فيما يتعلق باستخلاص العبر من مسارات شرق أوروبا وبلدان عربية أخرى، فى طليعة هذه التحديات ألا تأخذ فوضى إدارية واقتصادية إلى عودة للوراء، أى إرساء دولة قانون من الناحية الإدارية والقانونية مع شفافية فى العمل وإمكانية للمحاسبة عبر الحريات العامة.

• • •

لكن، قبل رفع العقوبات الأمريكية، تم الإعلان عن عقود ومذكرات تفاهم... لاستثمارات ساهمت كثيرا فى دفع آمال السوريين إلى الأمم، لكن المهم هو نشر نص هذه العقود والمذكرات بشفافية والحرص على تماشيها مع القوانين السورية، أو إذا لزم الأمر على الأقل إصدار قوانين واضحة تؤطرها... كى تخضع للنقاش العام، ريثما يكون هناك مجلس تشريعى حقيقى، كذلك ما زالت المؤسسات «العامة» والخاصة التى قامت أثناء الشرذمة السورية متباينة جدا فى شفافيتها وأصول عملها رغم توحيد أجزاء كبيرة من البلاد ضمن «دولة سوريا الجديدة»، لكن ما أنتجته الشرذمة أو ما كان يُمكِن أن تبرره العقوبات لا بد له اليوم أن يخضع لمنظومة قانونية وإدارية واحدة.

تأطير الاستثمارات الأولية وتوحيد الأسس القانونية سيساعدان على تعاظم الاستثمارات، السورية والخارجية، وبالتالى تعافى البلاد وترسيخ الثقة بالمؤسسات العامة وتفادى الفوضى الاقتصادية التى طبعت مراحل ما بعد الانهيار فى شرق أوروبا، وهما أيضا سيعاظمان من انخراط المؤسسات الدولية الكبيرة، كالبنك وصندوق النقد الدوليين وغيرهما، للمساعدة فى التحديث الضرورى للأنظمة الإدارية القائمة وأتمتتها، وكذلك على تقديم الخبرات والمنح الهادفة لإصلاح البنى التحتية، وهذا مهم لأن هذه المؤسسات تحرص على احترام الأسس الإدارية والقانونية أكثر من الشركات الخاصة، مهما كان تقييم توجهاتها على المدى البعيد، والتأطير والتوحيد هما بالمناسبة أيضا ما يمكن أن يشجع الإدارة الذاتية فى شمال شرق سوريا على الانخراط هى أيضا فى مسار «دولة سوريا الجديدة».

• • •

إلا أن خطاب السلطات الحالية المفرِط فى توجهاته الليبرالية لا يساعد فى النظر إلى الجانب الآخر من مرآة الاستثمارات. أن هناك شعبا سوريا يرزح أغلبه تحت خط الفقر وأن هناك دمارا ونازحين ولاجئين، لا بد من وضع تصور حول كيفية إنهاء المعاناة حولها، فماذا عن سياسات الحماية الاجتماعية، المعيشية والصحية وعلى آليات التشغيل والمساعدة الاجتماعية لتمكين عودة النازحين واللاجئين والعيش الكريم بانتظار فائدة اجتماعية من الاستثمارات الموعودة؟ وماذا عن ضرورة التنظيم العمرانى لإعادة البناء، خاصة للمدن والقرى المهدمة، كى لا تصبح قضية إعادة الإعمار قضية مضاربات عقارية... كما فى مخططات السلطة السابقة؟

لا شىء اسمه اقتصاد واستثمارات منفصِم عن آليات تجعل الدولة دولة قانون. ولا دولة قانون بالنسبة للحريات الفردية والعامة دون دولة قانون على الصعيد الاقتصادى، إذ ليس الاقتصاد فى بلاد هشة تخرج من صراع ودمار سوى... اقتصاد سياسى.

 

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات