صحت التحليلات التى تنبأت بأن زيارة دافيد كاميرون رئيس وزراء حكومة الائتلاف البريطانية إلى واشنطن لن تحقق انفراجة مهمة فى العلاقات الأمريكية البريطانية. وقع الفهم والتفاهم ولم يقع التقارب والاقتراب. وعلى كل حال لم يكن هناك على طرفى الأطلسى كثيرون انتظروا أن تسفر الزيارة عن عودة إلى الطبيعة الخاصة التى تميزت بها العلاقات بين البلدين منذ الفترة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية.
لم يكن غائبا عن المحللين السياسيين أن الدفء الذى أحاط بالعلاقات بين الدولتين وكذلك بين قياداتهما السياسية على امتداد عقود حل محله برود. كثيرون يعتقدون أن البرود بدأ مع نهاية ولاية الرئيس جورج بوش الصغير وتنحى طونى بلير عن منصب رئيس الوزراء لزميله جوردون براون. هناك أيضا من يعتقد، وكاتب هذه السطور منهم، أن التغير فى درجة حرارة العلاقة بدأ قبل ذلك الحين وعلى مستويات مختلفة. بدأ فى رأيى مع أحداث تفجير برجى نيويورك وغزو أفغانستان ثم العراق. بدأ عند مستويات أدنى من مستوى القيادات الحاكمة ثم صعد.
يبدو الآن لنا كما لغيرنا من المتابعين تطور هذه العلاقة أن الضغوط الأمريكية، وبخاصة من جانب جماعة المحافظين الجدد الذين أحاطوا بالرئيس بوش وتولوا المناصب الأساسية فى واشنطن، تجاوزت الحدود المعقولة المتعارف عليها بين حليفين كانت تربطهما أقوى علاقة يمكن تصورها بين دولتين.
وقعت الضغوط على طونى بلير شخصيا ومجلس وزرائه المصغر ومن هناك انتقلت الضغوط إلى أجهزة الحرب وكذلك أجهزة الاستخبارات والأمن القومى. كان يمكن فى ذلك الحين فهم استسلام بلير لرغبات واشنطن على ضوء حاجته إليها لتعويض عزلة بريطانيا فى أوروبا أمام التحالف الألمانى ــ الفرنسى، ولمساعدته على أن تتجاوز بريطانيا حالة فقدان المكانة ويكون لها فى السياسة الدولية دور أكبر مما تسمح به إمكاناتها الحقيقية.
تأكد الآن، وكان واضحا لنا منذ فترة غير قصيرة، أن معظم أجهزة الأمن القومى فى بريطانيا عارضت قرار الحرب ضد العراق قبل أن يجبرها طونى بلير على مسايرته وتنفيذه. وقتها لم يقدر بلير وقيادات حزب العمال وكذلك واشنطن، أن عدم رضاء الاستخبارات الإنجليزية عن قرار الحرب سوف يتسرب إلى مستويات أخرى، ويثير أسئلة تثار ربما لأول مرة، عن جدوى الطبيعة الخاصة التى تتسم بها العلاقات الأمريكية البريطانية.
تقول الليدى ماننينجهام ــ بوللر الرئيسة السابقة لجهاز MI5 فى شهادتها التى أدلت بها منذ أيام قليلة أمام اللجنة المشكلة للتحقيق فى ظروف دخول بريطانيا الحرب ضد العراق، إن أجهزة الاستخبارات البريطانية لم تشعر بأى تهديد أو خطر على بريطانيا من جانب الرئيس صدام حسين، وأنها شخصيا أرسلت مذكرة بهذا المعنى إلى طونى بلير رئيس الوزراء قبل سفره إلى واشنطن للالتقاء بالرئيس بوش لاتخاذ قرار الغزو. قالت أيضا إن هذا الغزو كان السبب فى أن مواطنين بريطانيين أقدموا على ممارسة أعمال إرهابية وتضاعف الميل إلى التشدد الدينى. وأضافت: «أن جيلا بريطانيا كاملا، أو فى أغلبه، صار راديكاليا بسبب هذه الحرب».
ولم تتردد السيدة رئيسة جهاز الاستخبارات فى الاعتراف بأنها كانت غاضبة لأن حكومة واشنطن مارست ضغوطا شديدة على بريطانيا فى محاولاتها إثبات أن العراق يقف وراء تفجيرات نيويورك. وأنها تحدثت إلى بول فولفوفيتس وكان وقتها نائبا لوزير الدفاع ليصرف النظر عن خطة حل الجيش العراقى فى أعقاب الغزو فرفض، وكانت النتيجة كما نعرف كارثية.
يعرف المسئولون البريطانيون على معظم مستوياتهم أن العنف المنتشر فى بريطانيا والتوترات العرقية والدينية وحال الإحباط العام السائد فى المجتمع وأمراض اجتماعية أخرى أعراض حالة ناتجة عن سياسات الاستسلام للضغوط الأمريكية للاشتراك فى الحربين. حربان لم يثبت حتى الآن بأى دليل مقنع أنهما كانتا ضروريتين لدرء خطر على بريطانيا أو وقف تهديد لأمنها وسلامتها. ولا تبدو حكومة ائتلاف المحافظين والليبراليين بعيدة عن هذه الأفكار.
بل إن تصريحا صدر عن مسئول تحدث عن رحلة كاميرون إلى الولايات المتحدة أشار فيه إلى العلاقات بين الدولتين ووصفها بأنها «علاقة خاصة عليلة»، وقال إن كاميرون سوف يبذل جهدا خلال الزيارة ليضع هذه العلاقة الخاصة على قاعدة «أقل عاطفية». بمعنى آخر سوف يعمل على نزع الجانب العاطفى لتعود علاقة عادية لا يحق لطرف فيها أن يفرض إرادته على الآخر.
على الناحية الأخرى، تعددت مؤشرات تلمح إلى أن بعض المسئولين الأمريكيين غاضبون من بريطانيا وإن لأسباب أخرى. ويبدو الآن أن الغضب عنيف إلى درجة دفعت أعضاء فى الكونجرس إلى ارتكاب خطأ جسيم، وستكون له عواقب على المستوى الشعبى. إذ قام هؤلاء الأعضاء باستدعاء جاك سترو الوزير السابق فى الحكومة البريطانية للمثول أمام لجنة استماع تشكلت لتناقش موضوع الإفراج عن عبد الباسط المقراحى من سجنه الاسكتلندى إرضاء لمساعى وضغوط شركة بريتيش بيتروليام البريطانية، أحدث الأعداء الألداء للنخبة الحاكمة فى أمريكا. كان واضحا لمن يعرف الخلفيات أن هذا الاستدعاء جاء فى شكل انتقام من دافيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا الذى رفض دعوة أو استدعاء مماثلا للاجتماع ببعض أعضاء الكونجرس لمناقشة المسألة.
تعددت التحليلات التى اجتهدت لفهم أسباب التغير فى درجة حرارة العلاقة الأمريكية البريطانية، بعضها اعتبر أوباما شريكا فى المسئولية لما عرف عنه من ميل إلى الابتعاد عن إقامة روابط شخصية أو ودية مع الزعماء الأجانب. بعض آخر ألقى بالمسئولية على تحولات النظام الدولى وأبرزها بروز الصين وقوى ناهضة أخرى كموضوعات وقضايا أهم لأمريكا من موضوعات وقضايا «العالم القديم»، أى أوروبا.
بعض ثالث ألقى باللائمة على طونى بلير وجوردون براون اللذين جعلا بريطانيا تبدو أمام الأوروبيين خاصة والعالم دولة متسولة. فريق رابع يلقى بالتهمة على أجهزة الإعلام التى بالغت فى رصد تفاصيل حالة العلاقات وتحليلها وتوصيفها.
أعرف من أصدقاء فى الولايات المتحدة أن الأكثرية فى دوائر صنع السياسة تعتقد أن التحولات الدولية الراهنة تتحمل مسئولية التغير فى العلاقة الأمريكية البريطانية. ولدينا فى التاريخ الحديث للشرق الأوسط ما يدعم هذا الاعتقاد.
نذكر أن أمريكا قررت فى عام 1956 الطلب إلى بريطانيا العظمى تفكيك إمبراطوريتها وتحرير مستعمراتها بعد أن تأكدت من أن الامبريالية الأوروبية تقف عقبة فى سبيل تشكيل نظام دولى جديد. ولم يكن أمام بريطانيا إلا أن تستجيب وإن طالبت وقتها بالمقابل أن تكون العلاقات البريطانية الأمريكية ذات طبيعة خاصة. قياسا على هذه التجربة لا يجوز استبعاد أن تكون الولايات المتحدة قد طلبت، أو لعلها تطلب الآن، من بريطانيا أن تعيد العلاقة بينهما إلى طبيعتها العادية. بمعنى أكثر وضوحا وصراحة، تصبح بريطانيا دولة عادية تمارس دورا فى السياسة الدولية منسجما ومتسقا مع إمكاناتها الذاتية، والتى نعرف ويعرف الجميع أنها صارت محدودة.