جلست وعلى الفور انغمست فى قراءة مقال للكاتب البريطانى الأصل طونى جاط، وجدته لا يقل إمتاعا عن معظم مقالاته.. وصلت إلى منتصف المقال لأكتشف أن كاتبا استطاع أن يجمع فى هذا العدد القليل من الصفحات هذا الكم من المعلومات والأفكار، ويجذبك بدفء وحب لقراءتها.
يؤرخ الكاتب للحظة انطلاق العصر الحديث وبدء حضارة جديدة باختراع السكك الحديدية وتسيير أول قطار، ويعرب بثقة عن اقتناعه بمبدأ لاشك أنه مبتكره والمبشر به. يؤمن الرجل بأن القطار السليم لا يوجد إلا فى البلد السليم. لا أخفى أننى تصورته مبالغا ولا أخفى أيضا أننى لم أمنع نفسى عن مسايرته فى المبالغة. رحت أقارن بين حال السكك الحديدية فى دول شتى وأحوال اقتصاداتها وأخلاقها وتراتيبها الاجتماعية، وتذكرت ما نشرته الصحف قبل أيام عن قطار سيرته الصين هو الأسرع فى العالم وقادر على أن يقطع المسافة بين القاهرة والإسكندرية فى أقل من نصف الساعة. خلصت، كما خلص طونى، إلى أن رابطة قوية تربط بين تحضر الشعوب وكفاءة السكك الحديدية التى تستخدمها فى حلها وترحالها.
فى إطلالة مدهشة يعرض الكاتب لمنشأ ما نطلق عليه جدول المواعيد. يقول إن الفضل يعود للسكك الحديدية فى اختراع أول جدول للمواعيد عرفته البشرية. وهو فى رأيه ورأيى ورأى الأجيال المعاصرة أحد أهم اختراعات العصر الحديث. كان أول جدول وضع لتنظيم المواعيد وتثبيتها هو جدول مواعيد قيام القطارات ومن بعده وبسببه وضعت المصانع والمدارس والمؤسسات الحكومية والتجارية جداول مواعيدها. فالقطار الذى ينقل العمال والطلبة والأساتذة والموظفين تعين عليه منذ أن انطلق فى أول رحلة له فى عام 1830 بين مدينتى ليفربول ومانشستر أن يتحرك فى وقت معين ويصل فى وقت آخر أيضا معين، لا يحيد عن هذا الوقت أو ذاك.. ومنذ ذلك اليوم أصبح جدول المواعيد ترسا يضبط إيقاع الحياة ويضع قيما أخلاقية جديدة للعمل والإنتاج والعلاقات الاجتماعية وقانونا يحكم العلاقة بين الرؤساء والمرءوسين. يذكر أبناء جيلى درس الحصة الأولى فى المدرسة بعد الانتهاء من تحية العلم وكان دائما عن احترام المواعيد ونظافة أظافرنا.
●●●●
وفى عرض شيق ومقنع يكتب طونى جاط عن علاقة السكك الحديدية بالساعات. كنا كأشبال ورفاق فى الكشافة والجوالة، منذ المرحلة الابتدائية وانتهاء بالجامعية، نتواعد على اللقاء «تحت الساعة» فى محطة مصر. كان اللقاء تحت هذه الساعة الشهيرة والتطلع المتقطع إليها بداية رحلة يلتزم المشاركون فيها بالدقة والنظام.
كانت الضمان ضد التأخير أو «التوهان». وبالتالى كانت الامتحان الأول لانضباط الفريق. وفى القطار كان هناك دائما رجل وقور وأنيق الملبس يمر بين صفى المقاعد أو يدق على أبواب الكبائن وهو يحمل على وجهه ابتسامة حلوة ويربت على أكتافنا بحنان ولكن يحزم لنجلس فى مقاعدنا ولا نزعج غيرنا من الركاب. يطلب فى أدب الاطلاع على التذاكر معرفا نفسه بـ«كمسارى القطار». وكنا لا نكف عن الاستفهام منه عن موعد الوصول واسم المحطة القادمة. ومع كل استفسار منا كان يخرج من جيبه ساعته المسلسلة إلى زرار «جاكتته» لينظر إليها باعتزاز وحب، ويجيبنا مشددا على الدقيقة قبل الساعة، ويعيدها إلى جيبه بعد إحكام إغلاقها.. كانت التوجيهات المعطاة لنا دائما من قائد الرحلة أو المشرف عليها أن يكون اللقاء تحت الساعة فى محطة الوصول كما كان اللقاء تحت الساعة فى محطة القيام. وقتها كان لكل محطة ساعتها أو أكثر. وكان لها مدير يرتدى بزة أنيقة ونظيفة يهرع من مكتبه إلى رصيف القطار ليستقبله وفى يده ساعة مسلسلة أخرجها لتوه من جيبه ينظر فيها ثم يعود لينظر فى الساعة الرئيسة على جدار المحطة ويقارنها بالساعات المعلقة على الأعمدة التى لا يفصل الواحدة عن الأخرى سوى مسافة عربتين من عربات القطار.
●●●●
كان رائعا شرح الكاتب للدور الذى لعبته محطات السكة الحديد فى تطوير المدن. لم أكن أعرف أن محطة الشرق فى باريس كانت وراء تخطيط الساحة بكاملها والسبب فى شق شارع ستراسبورج، وقد صار علامة بارزة لباريس يعرفها زوارها كأحد أجمل شوارع المدينة، وأن محطة «بن» فى نيويورك ومحطة سنترال يونيون فى واشنطن ومحطات أخرى فى الولايات المتحدة اختيرت لها نماذج أثرية رومانية وإغريقية مثل حمامات كاراكالا الشهيرة فى روما لتكون شاهدة على قيام حضارة جديدة فى القارة الجديدة. وقد قامت بهذا الدور الحضارى محطات القطارات الرئيسة فى كل من برلين وموسكو وبروكسل وبومباى. ولا ننسى أن محطة باب الحديد كانت الدافع وراء التخطيط لشق شارع الملكة نازلى، رمسيس حاليا، وكانت وراء ملحمتى نقل تمثال رمسيس وتنصيبه فى أهم موقع بمدينة القاهرة ليراه الملايين من سكان العاصمة وزوارها ثم خلعه من هذا الموقع ونقله إلى جهة يكاد لا يراه فيها أحد. وفى ظنى أنه لا يوجد فى مصر ميدان تغيرت معالمه خلال أربعة عقود أكثر من ميدان محطة باب الحديد.
يقول جاط إن نفوذ السكك الحديدية فى كثير من دول العالم وصل إلى حد أن الهيئة المسئولة عنها كانت تأمر فتطاع. وأعتقد أن بعضنا لا شك يذكر حين كان فى مصر هيئتان تأمران فتطاعان: هيئة السكك الحديدية ومصلحة الرى.
●●●●
كذلك كان مثيرا عرض الكاتب للعلاقة بين السكك الحديدية وصناعات عديدة مثل الصلب وبناء السفن والعبارات وتشكيل مهارات عمالية نادرة، وبينها وبين تطوير البنى التحتية وبخاصة الجسور والكبارى والأنفاق وتسوية الجبال بالأرض المسطحة أو رفع الأرض إليها. ولم يغفل الإشارة إلى العائد من وراء الاستفادة بكفاءتها الإدارية والتنظيمية فى إدارة مشاريع القطاع الخاص وبخاصة فى مجالات السياحة والمطاعم والفنادق.
●●●●
البعض منا يعرف دور القطار فى مسيرة بناء الإمبراطورية الأمريكية وتوسعها نحو أقصى الغرب فى القارة، عرفناه من قراءة ما كتبه المؤرخون عن مرحلة غزو الغرب وترويضه ولكننا عرفناه أيضا من خلال إدماننا أفلام رعاة البقر والحرب ضد الهنود الحمر. أسفت لأن طونى لم يكتب عن «الحصان الحديدى»، وهو الاسم الذى أطلقه الهنود على قطار السكك الحديدية ودوره فى عمليات الإبادة التى شنها المستوطنون والحكومة الأمريكية ضد الهنود الحمر.
فاتنى أن أذكر أننى قرأت مقال طونى جاط المنشور فى «مجلة نيويورك لعروض الكتب» خلال رحلة قطار بين محطتى مصر وسيدى جابر. قضيت الساعتين المقررتين للرحلة حسب جدول مواعيد قيام القطارات ووصولها بالإضافة إلى الساعة ونصف المقررتين للتأخير لدواعى الأعطال والإهمال أقرأ المقال على فقرات، أقرأ فقرة ثم أنظر حولى، تارة داخل القطار وتارة خارج القطار، وأعود لقراءة فقرة أخرى. ورغما عنى أقارن بين ما وصفه الكاتب فى دول أخرى وما أراه من حولى وأمتحن مقولاته ومنها ما قاله عن السكك الحديدية كشهادة على تحضر الدولة وتقدمها وقناعته بأن القطار السليم لا يوجد إلا فى البلد السليم.