مثل كثير من الأشياء التى اختلفت علاقتى بها من فترة لأخرى تبدلت علاقتى بالشتاء عبر المراحل المتتالية من عمرى. لم أحب الشتاء فى طفولتى لأسباب كثيرة، فالشتاء هو الفصل الذى تبدأ فيه الدراسة بكل ما يرتبط بها من صحو ونوم مبكرين وواجبات وامتحانات وتوتر وتقييد للفسح والخروج. ولأن إجازتنا الأسبوعية كانت يومى الجمعة والأحد فقد جرت العادة على أن يخصص يوم الأحد لزيارة طبيب الأسنان وهى الزيارة الثقيلة جدا على قلوب الأطفال. ثم إنه ما أن كان يحل فصل الشتاء حتى يتلبسنى إحساس حقيقى بأننى طائر البطريق أتحرك بصعوبة وأجرى بالكاد فما كانت أمى تترك قطعة ملابس على المشجب إلا وتدخلنى فيها لا يثنيها توسل ولا يمنعها رجاء فخوفها علينا عظيم، ولم تكن أمى تعول على نشرة الأحوال الجوية فى شىء بل كانت لها حساباتها الخاصة لبدايات الفصول ونهاياتها، وهكذا حفظت عنها مثلا كانت تكرره كل شتاء «اغطس يا مسيحى صيف يا مسلم بعد أربعينين»، وهذا يعنى أنه ما كان يسمح لنا بالتخفف من طبقات الملابس المتتالية إلا بعد ثمانين يوما من احتفال المسيحيين بعيد الغطاس أى فى نهاية شهر أبريل أو شهر برمودة حسب التقويم القبطى الذى كانت تحفظه أمى وتنتقل منه للتقويمين الميلادى والهجرى بسلاسة جميلة. وعندما كان يتصادف أن يأتى شهر رمضان فى فصل الشتاء كانت الدراسة تحرمنا من الكثير جدا من الطقوس الرمضانية الممتعة، وكنا نغبط الكبار لأنهم أحرار يتزاورون مع الأصدقاء وقتما يشاءون ويسهرون حتى صلاة الفجر ويتابعون فوازير ثلاثى أضواء المسرح ومسلسلات ما بعد الإفطار أما نحن فننام مبكرا ونوقظ بجهد جهيد لتناول السحور.
***
مضت السنون وتخرجنا وعملنا وصار لنا أبناء وبدأت العلاقة مع الشتاء تختلف كثيرا. تبادلت وأمى المواقع ورحت أحشر أبنائى فى طبقات الملابس الصوفية المتتالية ولا أفهم مم يشتكى بالضبط هؤلاء الأطفال الصغار. صرت أنتظر الشتاء لأنه يعطينى فرصة أكبر للعمل أو لاحتساء كوب من القرفة باللبن مع صديقة فى مقهى بوسط البلد فالأبناء فى المدارس وأنا حرة. اكتشفت لذة السير تحت المطر التى لم أمارسها فى طفولتى إلا خلسة خوفا من العقاب، واستمتعت بمشهد الرذاذ فوق زجاج السيارة والمساحات تنحيه بهمة ذات اليمين وذات اليسار حتى تصفو الرؤية وتتضح أمامى معالم الطريق. أحببت أكثر مقطع الشتاء فى رائعة فريدة الأطرش «الربيع» والكومبارس يدفئون كفوفهم بأنفاسهم وسامية جمال تتخايل فى معطف من الفراء السميك ينقل للمشاهد إحساسا بالدفء الأنيق. تذوقت «أبو فروة» على كبر عندما قدر لى أن أسافر إلى عدة دول أوروبية ووجدت طعمه لذيذا وحمدت للشتاء أن عرفنى إليه. صار الشارع أهدأ والهواء أنظف والليل أطول والأعصاب أخف توترا. سنح الوقت فاستمتعت متعة إضافية بالأضواء الملونة فوق أشجار عيد الميلاد وقد صنعت قوس قزح كبيرا بحجم المدينة، وغزت زهور بنت القنصل أسواقنا ولم تكن تعرفها حتى سنوات خلت فتراءى لى فصل الشتاء بزينته وبهجته ووروده الحمراء القانية وكأنه هدية مجانية حملها بابا نويل إلى الناس وليس كل الناس قادرون على التهادى عند حلول سنة ميلادية جديدة.
***
تناقص اهتمامى بالمصيف والبحر وقصور الرمال وكل المباهج التى كانت تسبب لى فى طفولتى إثارة عقلية كبيرة ولم أعد أَتبرم من قضاء أمسيات الشتاء إلى جوار المدفأة الكهربائية أقرأ أو أقرئ أولادى قصة أو كتابا. وهكذا توطدت علاقتى بالشتوية فلم أعد أفاجأ بها إن هى «رجعت» كما تشدو فيروز الحبيبة ولا عدت أكتئب «لما الشتا يدق البيبان» كما يبدع على الحجار، صادقت الرياح الباردة وتسامحت مع صريرها.
أما أحاسيسى تجاه الشتاء فى هذه المرحلة من العمر فإنها لا تشبه ما قبلها من أحاسيس، لم أعد أكره الشتاء ولا عدت أحبه بل صرت أخشاه. أقول صرت أخشاه لأنى صرت أشبهه، وليس صحيحا بالمطلق أن المرء يحب شبيهه فالأمر مرهون بماهية الصورة التى نتشابه فيها. رءوس الدبابيس البيضاء التى تعلو أغصان الأشجار العارية تشبه كثيرا هذا الشيب الذى خط رءوسنا وحفر فيها أخاديد نتحايل عليها ونخبئها ونسترها فتعود وتشق لمجراها ألف طريق، الأوراق المتساقطة عند سيقان الأشجار تشبه سنوات العمر الطويل من خلفنا تنفرط بأسرع مما تعودنا أو هكذا نبرر لأنفسنا، هذا السكون.. هذا الضباب.. هذا الجفاف يوجد ألف رابط صار يجمعنا بهم حتى لكأنه يضعنا معهم على خط مستقيم. عدنا إلى طبقات الثياب السميكة نتدثر بها لكن عن طيب خاطر وليس مثل زمان فالتمرد على البرد مغامرة لا تحمد عواقبها فى هذه السن. بتنا نخشى الليل ونحسب حسابه، نتناوم فيتراءى لنا أشخاص رحلوا ونحذر التفسير فقديما قالوا تفسير الأحلام يحققها.. نتوجس من الوحدة ونطلب رفقة آخرين فإن لم تأت إلينا ذهبنا إليها أو استأجرناها.
***
عاد الشتاء من تانى لكنا تغيرنا، ضاعفت حروب الجوار ومشهد النازحين يخوضون فى موجات الثلوج واحدة تلو أخرى إحساسنا بقسوة الطقس وبرودته حتى ونحن فى فرش وثيرة. ورغم أن عمر الشتاء صار أقصر مع تغير المناخ وتأجل حلوله إلى شهر كياك أو شهر ديسمبر من كل عام لكن إحساسنا بوطأته زاد فإذا ونحن ما زلنا فى بدايته يأخذنا الحنين إلى فصل الربيع فنتعجله ونستدعيه ونرقبه ونبحث فيه عن شعور مفقود بالأمان.