العالم فى حاجة لحكمة «ذى القرنين» وليس عبقرية «أوبنهايمر»! - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 12:16 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العالم فى حاجة لحكمة «ذى القرنين» وليس عبقرية «أوبنهايمر»!

نشر فى : الخميس 31 أغسطس 2023 - 6:50 م | آخر تحديث : الخميس 31 أغسطس 2023 - 6:50 م

سجل تاريخ البشرية أسماء أبطال كُثُر، فى الحرب وفى السلم، من أمثال الإسكندر الأكبر (أشهر القادة العسكريين عبر التاريخ، وُلد 356 ق.م، وتتلمذ على يد أرسطو، أسس أعظم الإمبراطوريات فى العالم القديم، امتدت من سواحل البحر الأيونى غربًا وصولا إلى سلسلة جبال الهيمالايا شرقًا)؛ وسلطان مصر سيف الدين قطز (مملوكى، تولى المُلك 1259 وتوفى 1260م، بطل معركة عين جالوتå، وقاهر التتار المغول، وأبرز حكام مصر على الرغم من أن فترة حكمه لم تدم سوى أقل من عام واحد)؛ وصلاح الدين الأيوبى (مؤسس الدولة الأيوبية التى وحدت مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن فى ظل الراية العباسية، بعد أن قضى على الخلافة الفاطمية التى استمرت 262 سنة، وقاد عدّة معارك ضد الفرنجة الصليبيين)؛ ونابليون بونابرت (قائد عسكرى وحاكم فرنسا وملك إيطاليا وإمبراطور الفرنسيين، حكم فرنسا فى أواخر القرن الثامن عشر، وكان لأعماله وتنظيماته تأثير كبير على السياسة الأوروبية).. إلخ.
كذلك سجل التاريخ أسماء علماء وعباقرة ارتقوا بحياة الإنسان بفضل اختراعاتهم مثل: جاليليو جاليلى (1564 ــ 1642) عالم الفلك؛ وإسحاق نيوتن (1642 ــ 1727 مؤسس علم الفيزياء؛ وتوماس إديسون‏ ‏(1847 – 1931) مخترع الكهرباء؛ وألكسندر غراهام بل (1847 ــ 1922)، مبتكر الهاتف؛ وألبرت أينشتاين (1879 ــ 1955) صاحب نظرية النسبية التى غيرت تاريخ الفيزياء؛ وأخيرًا وليس آخرًا تطل علينا السينما العالمية بفيلم عن العبقرى ألبرت أوبنهايمر (1904 ــ 1967) الذى اخترع القنبلة الذرية، وكان سببًا فى إنهاء الحرب العالمية الثانية، فأوقف زحف هتلر، ولكنه فى نفس الوقت كانت عبقريته سببًا فى القضاء على مئات الآلاف فى هيروشيما ونجازاكى فى دقائق معدودة!.
السؤال المطروح ماذا يُفضل الإنسان: البطل العسكرى الذى يحقق انتصارات عسكرية، ويتسبب فى هلاك البشر، أو العالِم الفذ الذى تتسبب اختراعاته فى تدمير البشرية، أم البطل العسكرى الحكيم الذى يحقق السلام بأقل قدر من الخسائر، والعالِم الذى يتسبب فى رُقى وتقدم وإسعاد البشرية باختراعاته؟
●●●
شغلنا هذا التساؤل، وكما قادتنى الصدقة فى مقالنا السابق «شيطان جعفر المصرى..». الذى تحدثنا فيه عن توارد الخواطر، قادتنى هذه المرة لبحث مبدع (نشر 2018م) بعنوان L’histoire du Bicornu d’après le manuscrit de Tombouctou، (قصة ذى القرنين من خلال مخطوطات تمبكتو) للدكتورة سحر سمير، كشفت فيه عن وجود كنوز من الوثائق والمخطوطات الإسلامية القديمة المهملة، عُثر عليها فى إقليم «تمبكتو» فى جمهورية مالى بغرب أفريقيا، ومنها مخطوطات عديدة تتحدث عن قصة ذى القرنين.
أسردت الباحثة فى دراستها أن فريقًا من الباحثين الفرنسيين قاموا بمعالجة هذه المخطوطات، وترجمتها إلى اللغة الفرنسية؛ فقد عكفوا على علاجها من عوامل الإهمال، كما قاموا بإعادة كتابتها لكى تصبح مفهومة وصالحة للقراءة، وبالتالى مُهيئة للدراسة والترجمة، وكان من أهم نتائج البحث أن الشعار المقدس عن الترجمة لـجورج مونا (G. Mounin): «أنها يجب أن تكون مثل المرأة جميلة ووَفِيَّة»، ثبت أنه لا يمكن تعميمه على كل النصوص، وأن الترجمة يمكن أن تكون جميلة رغم أنها غير وفِيَّة!.
من خلال البحث السابق، واستعراض المخطوطات العديدة، تبيّن أن العلماء من المؤرخين والمفسرين أجهدوا أنفسهم لسنين طويلة وما زالوا لمعرفة شخصية «ذى القرنين» التى ذكرت فى الأديان الثلاثة، فهناك اختلاف حول هوية ذى القرنين بمقارنة شخصيته بشخصيات تاريخية مشهورة، واختلاف ثانٍ عن سبب تسميته بذى القرنين، واختلاف ثالث عن هوية القوم التى أرسل إليهم ليدافع عنهم، وكذلك أمة «يأجوج ومأجوج» التى حاربها، وخلاف رابع حول مكان السد الذى بناه ذو القرنين ليمنع يأجوج ومأجوج من إيذاء الشعوب الأخرى، هذا الخلاف بين المفسرين والباحثين قابَلَه شبه اتفاق فى الديانات السماوية الثلاثة حول قصة الملك العظيم، الملقب بذى القرنين.
فى اليهودية، ورد الاسم جوج فى سفر حزقيال على أنه اسم لملك يحكم على أرض تدعى مأجوج أو على شعب يدعى بهذا الاسم، وسيقوم هذا الملك بغزو أرض إسرائيل قبل اليوم الأخير، ولكنه يُقتل هو وشعبه فى مذبحة هائلة.
وفى المسيحية، فى الكتاب المقدس فى سفر الرؤيا ليوحنا اللهوتى فى الإصحاح العشرين فى الآية 8): «ويخرج ليضل الأمم الذين فى أربع زوايا الأرض: جوج ومأجوج، ليجمعهم للحرب، الذين عددهم مثل رمل البحر». وهما فى الأصل ملكان للممالك الشمالية التى حاربت إسرائيل قديما وتنبأ عنها حزقيال (حز 38:2) وعن خرابها الشديد (حز 38: 7ــ13).
وفى الإسلام، يحكى القرآن قصة ذى القرنين بأنه بدأ التجوال بجيشه فى الأرض، داعيا إلى الله، فاتجه غربا، حتى وصل منتهى الأرض المعروفة آنذاك: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا» (الكهف:86)، وكذلك قصة بنائه لسد يمنع عدوان يأجوج ومأجوج المفسدين فى الأرض: «قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا، آتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا، قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّى فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقًّا» (الكهف: 94ــ98).
●●●
يقارن المؤرخون شخصية ذى القرنين بعدة شخصيات تاريخية من أمثال الإسكندر الأكبر، وكورش الكبير، والنبى سليمان والخضر، وحتى أخناتون.. إلخ، فى الحقيقة، أراد كل باحث أن ينسب شخصية «ذى القرنين» لحضارة أمته؛ لأنها وصفت فى الأديان السماوية بأنها شخصية عظيمة تميّزت بالحكمة والبطولة والعدل، ولهذا تعددت التفاسير، واختلفت بين الشرقيين والغربيين وحتى الآسيويين، وحدث بينهم تنافس كبير، كلُّ يريد أن ينسب هذه الشخصية العظيمة لقومه ولحضارته.
حارب الغربيون لاعتباره الإسكندر الأكبر لأنه ينتمى للحضارة الأغريقية القديمة أصل الحضارة الغربية، إلا أن الباحثين العرب عارضوهم باعتبار الإسكندر وثنيًا، ولم يكن مؤمنًا بالديانات السماوية، ولا يمكن تعظيمه فى القرآن وهو على هذه الحالة، فقد كان مؤمنًا بالأساطير اليونانية القديمة؛ وتشير المصادر الإسلامية القديمة تارة إلى أنه ربما يكون النبى سليمان عليه السلام الذى كان ملكًا مدعمًا بكل كائنات الأرض، وتارة أخرى أنه العبد الصالح «الخضر» الذى ذُكِر فى سورة الكهف، وهو عبد آتاه الله رحمة من عنده، وعلَّمه من لدنه علمًا، ورافقه النبى موسى عليه السلام، وتعلم منه الكثير؛ بينما يميل أبو الأعلى المودودى من آسيا (باكستان القريبة من بلاد الفرس) إلى أنه كورش الكبير أعظم ملوك بلاد فارس القديمة.. إلخ!.
هكذا تعددت التفاسير لفك شفرة هوية «ذى القرنين» التى اختلفت حتى على تفسير اسمه، فقد ذكر المفسرون أن سبب تسمية ذى القرنين تعود إلى وصوله للشرق والغرب، حيث يُعبِر العرب عن ذلك بقرنى الشمس، وقيل لأنه كان له ضفيرتان من الشعر والضفائر تسمى قرونا، وقيل كان له قرنان تحت عمامته، وقيل غير ذلك، ولا يخفى أن هذه التفسيرات لم يقم على واحد منها دليل يجب الأخذ به، وبالتالى فإن الأمر يظل أمرا غيبيًا!.
استنادًا لما سبق من حيرة المؤرخين حول تفسير قصة ذى القرنين، فإننا نعتقد ــ والله أعلم ــ أن هذه القصة هى من سبيل الأمثلة التى يضربها لنا الله فيعلمنا ما يجب فعله فى الحياة الدنيا، فليس بالضرورة أن تكون قد وقعت فى الحقيقة بكل أحداثها، كما فى قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيمٌ» (النور 35)، فالله إذن يذكر لنا قصة رجل ــ أكناه بذى القرنين ــ آتاه مُلكًا عظيمًا، وطاف مشارق الأرض ومغاربها، فكان حاكمًا عادلًا له قوة وسلطان، يعاقب الظالم ويكافئ الصالح، يميل للسلم ولا يدعو للحرب، كما أن يأجوج ومأجوج كناية عن الشيطان وأعوانه، هذا إذن مثال من الله لما يجب أن يكون عليه «الحاكم» (القائد العسكرى أو السياسى) من الحكمة والورع والفطنة..!.
●●●
هذا إذن النموذج الذى تتمناه كل الشعوب والأمم، ولكن التاريخ وطبيعة الإنسان التى تصيب وتخطئ لا يمكن يتوفر لها هذه الصفات المثالية مجتمعة، فالكمال لله وحده؛ ومن ناحية أخرى، الابتكارات العلمية العظيمة التى أحدثت نقلات نوعية فى حياة البشر، وحققت لها السعادة فى كل مجالات الحياة، فإن لكل ابتكار وجهَه الآخر الذى يمكن أن يضر الإنسان، فالدواء الذى يعالج الإنسان من المرض له بالضرورة أعراضه الجانبية التى يمكن أن تُعجل بعجزه أو بوفاته، فالإشعاع الذرى أو النووى ــ على سبيل المثال ــ يشفى الإنسان من أمراض كثيرة عضال، ولكن هذا الاختراع هو الذى دمّر مئات الألوف من الناس فى الحرب العالمية الثانية!.
هذا ما حدث للعبقرى أوبنهايمر الذى كان يسارع الزمن بمساندة دولته (الولايات المتحدة) للوصول لأخطر سلاح مدمر فى تاريخ البشرية أثناء الحرب العالمية الثانية «القنبلة الذرية»، فلولا هذا السلاح الفتاك ما استطاع الحلفاء الغربيون هزيمة المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، ولكن «ضمير» العالِم ــ أوبنهايمر ــ أرَّقه ــ بعد موت الآلاف ــ وقال عن نفسه «الآن أصبحت أنا الموت.. مُدمر العالم»، ولهذا فقد سعى لعمل توازنات فى العالم لكى لا تمتلك هذا السلاح أمة واحدة وحتى لا يكون لها الحق فى تدمير كل من يعارضها، وعليه اتُهم بتسريب سِر القنبلة الذرية للآخرين، وهذا ما عرَّضه للمحاكمات «المكارثية» فى الكونجرس الأمريكى!.
وختامًا، نستطيع أن نُجزِم بأن البشرية بطبيعتها تجنح للسلم والاستقرار، ولا تميل للشر ولا للحرب ولا العنف، فهى بلا شك تفضل القائد العادل والحكيم والفطن الذى يُشبه «ذى القرنين»، وتفضل كذلك العالِم الذى يسعد البشرية ويعالج آلامها.

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات