يأتي الاحتفال بالمولد النبوي الشريف باعتباره مناسبة دينية ذات مكانة خاصة في قلوب المسلمين، والمصريين على وجه الخصوص، إذ يمثل ذكرى ميلاد أشرف الخلق، سيدنا محمد ﷺ، الذي جاء إلى الدنيا في لحظة فارقة من التاريخ الإنساني.
فقد وُلد النبي في زمنٍ كانت البشرية تعاني فيه انهيارًا أخلاقيًا وروحيًا، وكانت تسير بخطى متسارعة نحو الهاوية، حتى بدت وكأنها على شفا السقوط الكامل في ظلمات الجاهلية، من دون بصيص أمل في الأفق.
وفي هذا التقرير، نعود بالزمن أكثر من ١٤ قرنًا إلى الوراء، لنُلقي نظرة على ملامح العالم قبل مولد الرسول ﷺ، ونتأمل كيف غيّر هذا الميلاد مجرى التاريخ الإنساني برمّته.
* مجتمع ينهار خلف صورة بَرّاقة
وفقًا لتقارير وزارة الأوقاف المصرية، كانت الإمبراطورية الرومانية، رغم اتساعها العسكري والحضاري، تعاني من فساد سياسي وأخلاقي طال جميع مؤسساتها، فقد انتشرت فيها الرشوة والزنا، وانهارت قيمة الأسرة، وسيطر التمييز الطبقي والعبودية، حتى تحوّل المجتمع إلى طبقات لا تلتقي، وأفراد بلا ضمير.
أما الإمبراطورية الفارسية، فكانت وجهًا آخر للانحراف العقائدي والاجتماعي؛ حيث شاع فيها زواج المحارم، وعبادة النار، ووصل تقديس الملوك إلى حد اعتبار دمهم دمًا إلهيًا لا يجوز المساس به.
* الجزيرة العربية بين الوثنية والجاهلية
رغم أن الجزيرة العربية كانت أقل في الإمكانيات والمساحة، إلا أن الجاهلية فيها لم تكن أقل وطأة. فقد عبد العرب الله وعبدوا معه الأصنام، حتى بلغ عدد الأصنام داخل الكعبة وحدها 360 صنمًا – لكل قبيلة صنم، وأحيانًا لكل بيت.
كان بعض العرب يصنعون آلهتهم من التمر، ثم يأكلونها إذا جاعوا! وانتشرت الخمر والميسر والزنا، وأصبح الربا أساس المعاملات المالية، والحروب القبلية لا تنتهي، تحكمها العصبية والانتقام.
أما وأد البنات – أي دفن الطفلة حيّة خوفًا من الفقر أو العار – فكان ممارسة شائعة، تعكس انعدام الرحمة وتدهور قيمة الإنسان، في مجتمع لا يحكمه سوى منطق القوة والبقاء للأقوى.
* الإنسانية على شفا الانهيار
عند جمع ملامح ما كان عليه الرومان، والفرس، والعرب، تتضح الصورة القاتمة لعالم يُعاني من: انقسامات دينية، وفوضى أخلاقية، وظلم اجتماعي، وغياب شبه كامل للقيم الإنسانية.
ووصف المؤرخون تلك المرحلة بأنها "الجاهلية الأولى"، وهي حقبة تجلّى فيها تسلط الشيطان على العقول والقلوب، حتى صار الناس يسجدون للحجر والنار والبشر، وتلاشت الكرامة الإنسانية تمامًا.
في تلك اللحظة، كانت البشرية بأمسّ الحاجة إلى رسالة سماوية، تُعيدها إلى رشدها وتُخرجها من هذا الانهيار.
* قيمة ذكرى المولد النبوي الشريف
لم يكن مولد النبي محمد ﷺ مجرد حدث تاريخي، بل هو ولادة الأمل في قلب الظلام، وبداية لمسيرة إصلاح شامل لم يسبق لها مثيل.
فقد جاء الرسول ﷺ برسالة الإسلام، ليُقيم مجتمعًا يسوده العدل والإخاء، ويُحارب سموم الجاهلية من كذب، ونميمة، وظلم، وعداوة، داعيًا إلى المحبة والسلام والتسامح، ومؤسسًا لقيم إنسانية راقية لا تزال صالحة لكل زمان ومكان.
وبذلك، تتحول ذكرى مولده ﷺ إلى مناسبة للتأمل والتجديد، والتأكيد على المعنى العظيم الذي وُلد من أجله: هداية البشرية، وإنقاذها من الجهل والظلم، ونقلها من عبادة الخلق إلى عبادة الخالق وحده.