رؤية إنسانية عابرة للثقافات.. رواية الخواجاية لفيموني عكاشة نص ينبض بالتفاصيل الحية - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:38 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رؤية إنسانية عابرة للثقافات.. رواية الخواجاية لفيموني عكاشة نص ينبض بالتفاصيل الحية

أسماء سعد
نشر في: الجمعة 6 ديسمبر 2024 - 6:57 م | آخر تحديث: الجمعة 6 ديسمبر 2024 - 6:57 م

• تداخل السرد بين الذات والآخر يخدم أصداء الماضى ويستدعى شخوصه

 

 

«مشاعر فياضة، جولات من مزج الماضى بالحاضر، تنويعات عاطفية مختلفة»، نجدها فى «الخواجاية» لفيمونى عكاشة، وهو العمل الصادر عن دار الشروق، متناولا ببراعة مجموعة من عناصر الإبداع والخيال الروائى الممزوج بالسيرة المشوقة، والتى تصطحب القارئ منذ البداية فى عدد من جولات الذاكرة.

نصوص الكتاب تتجاوز كونها مجرد تأريخ لحياة عائلية، إذ تنبسط على مساحة زمنية طويلة تسلط الضوء على التحولات التى شهدها المجتمع المصرى، مع إضاءات مختصرة على ما جرى فى هولندا، لاسيما خلال فترة الحرب العالمية الثانية حين واجهت الاحتلال الألمانى، ومعاناة شعبها من الفقر وشح الموارد الغذائية.

فى حوالى ثلاثمائة صفحة، تأخذنا الكاتبة فى رحلة عبر مختلف مراحل حياة «الخواجاية»، بدءًا من طفولتها ضمن أسرتها الهولندية، وصولاً إلى حياتها المميزة التى نسجتها بشجاعة وإتقان فى مصر، وبالأخص فى مدينة المحلة خلال أوج تألقها، فالنص يفيض بتفاصيل يومية مألوفة، لكن الكاتبة، وهى ابنة جيردا، نجحت فى تقديمها ببراعة من خلال أسلوب بسيط وعين ترى الأشياء من منظور الأجنبى الذى عاش فى مصر، أحبها، وأصبح جزءًا من نسيجها الاجتماعى، رغم العقبات التى تواجه المختلفين فى مجتمعنا، وخاصة فى المناطق التى تقع خارج العاصمة.

سمات عديدة يتيقن منها القارئ بخصوص العمل منذ بدايته، بداية من الصدق الذى يتجلى فى كل كلمة، مرورًا بأسلوب السرد الذى يتميز بالسلاسة ويخلو من استعراض لغوى مبالغ فيه، إضافة إلى ذلك، جاءت الصور المرافقة للنص فى نهاية كل فصل لتضفى على العمل بعدًا بصريًا رائعًا، حيث تتسم بجودتها العالية وحسن اختيارها، مما يعكس ذكاء فى ترتيبها يعزز من قيمة السرد.

النص يقدَّم من خلال صوت الابنة «فيمونى»، التى تنقل حكاية والدتها التى انتهى بها المطاف إلى الخرف وفقدان الذاكرة، بعد أن كانت معروفة بذاكرة استثنائية ودقة مدهشة فى التفاصيل. ورغم تركيز السرد على الأم، لا يخلو النص من إشارات عابرة إلى تفاصيل من حياة الابنة. الأم، التى تُلقب بـ«الخواجاية»، وهو لفظ يطلق فى الثقافة المصرية على الأجانب، وبخاصة غير المسلمين، تقف فى مركز هذه الرواية.

يغطى النص مراحل متعددة تبدأ من أوائل الستينيات وحتى أحداث ثورة يناير عام 2011، لكن الكاتبة لا تقدم هذه الأحداث كتواريخ مجردة؛ بل تركز على تأثيرها فى مسارات الشخصيات المختلفة، التى تحتفظ الساردة بأسمائها الحقيقية، وتستعيدها أحيانا من خلال ذاكرة الأم التى تمر بلحظات من التيه الواضح.

الإجادة فى النصوص لعبت دورا كبيرا فى توريط القارئ بالأحداث منذ البداية؛ حيث تستهل الرواية «الخواجاية» أحداثها من المرحلة الأخيرة فى حياة الشخصية الرئيسية، «جيردا»، التى انتهت إلى حالة من الخرف وفقدان الإدراك، وصولاً إلى وفاتها.

يكتشف الكتاب مذكرات «جيردا» المحفوظة فى درج خزانتها؛ حيث تتخذ الرواية بنية زمنية متداخلة، إذ يتنقل السرد بين صوت الابنة وهى تتحدث عن والدتها وعائلتها بصيغة الغائب، وصوت الأم الذى يظهر فى مذكراتها متحدثة عن نفسها بفترات زمنية متباينة.

يعود السرد إلى الوراء ليعرض قصة حب «جيردا» و«أنور»، مهندس النسيج المصرى، حين كانت تعمل كجليسة أطفال، تقع «جيردا» فى حب «أنور» الذى تميّز بوسامته وخفة ظله وكرمه، ويبادلها المشاعر ذاتها رغم اعتراض بعض أفراد أسرته على زواجه من أجنبية، فالرواية تتسم بطابع توثيقى يجعل الراوية حريصة على كسر الحاجز بين القارئ والنص، فتصرح: «اخترت أن أبدأ الكتابة عن حكاياتها، وعن عائلتها التى لم تملّ من الحديث عنها، وقررت أن أذكر اسمها الذى طالما استهزأت به وأنا صغيرة».

من أميز ما أبرزته الراوية أن «جيردا» لم تعش صراعا داخليا بشأن هويتها، إذ تمكنت من التوفيق بين أصولها الهولندية وانتمائها لمصر. على العكس، كانت «جيردا» شديدة الولاء لمصر، وغرست فى أبنائها حب هذا الوطن الذى تبنته قلبا وروحا، وعاشت فى أوساطه، سواء فى المحلة الكبرى أو القاهرة أو الإسكندرية أو مديرية التحرير. ومن اللافت تضمين السرد بعض العبارات باللهجة المصرية الدارجة، مما أضفى على الرواية نكهة محلية نابضة بالحياة.

تميزت الكاتبة فيمونى عكاشة بقدرتها على تصوير تنوعات الطبقات الاجتماعية والديانات والطبيعة البشرية فى سياقات متعددة دون أن تربك القارئ، وقد أشارت بشكل خاص إلى المحلة الكبرى، التى أعادت تقديمها من منظور أدبى فريد، لدرجة أن القارئ الذى يعرف المدينة قد يراها بعيون جديدة تماما من خلال الوصف الغنى الذى يقدمه النص، هذا التناول الأدبى المميز يعكس عمق الأدب وأهميته فى استكشاف زوايا لم نكن نراها من قبل.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك