يرى الباحث ليام كار أن القارة الأفريقية سوف تشهد تحولات متسارعة في موازين النفوذ بين القوى العالمية، في وقت تتراجع فيه مكانة الغرب وتتعاظم أدوار الصين وروسيا. وفي خضم هذا المشهد، تبرز تركيا كلاعب طموح يسعى لترسيخ حضوره الاقتصادي والعسكري في القارة، ما يطرح تساؤلا مهما مفاده: هل يمكن للولايات المتحدة أن تجد في أنقرة شريكا فاعلا يساهم في تحقيق أهدافها ومصالحها في أفريقيا؟
ويقول كار، الذي يشرف على إعداد تحديثات أسبوعية وخرائط حول النزاعات في أفريقيا، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية إن العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة تشهد ازدهارا وذلك بعد الاجتماع الأخير بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في واشنطن. وجرى تسليط الضوء على العديد من المجالات لتعزيز التعاون التركي–الأمريكي، بدءا من توثيق العلاقات التجارية ووصولا إلى صفقة طائرات إف-35، فضلا عن قضايا تتعلق بحلف شمال الأطلسي (ناتو) والسياسة في الشرق الأوسط.
ويضيف كار إن من المجالات الأخرى التي ينبغي للمسؤولين الأمريكيين أن يحذوا فيها حذو ترامب ويستكشفوا سبل التعاون مع تركيا هي القارة الأفريقية. إذ تبدو تركيا مؤهلة للاضطلاع بدور مهم في أفريقيا في وقت يتراجع فيه النفوذ الأوروبي، وتسعى فيه الولايات المتحدة إلى خفض المساعدات والإنفاق الدفاعي هناك. ومع تنافس الصين وروسيا على ملء هذا الفراغ، تبرز تركيا كشريك بديل يمكن للولايات المتحدة دعمه.
ويرى كار أن تركيا وسعت نطاق حضورها في أفريقيا بشكل كبير خلال العقدين الماضيين. فسلكت أنقرة مسارات عدة للتأثير، من بينها تعزيز الروابط التجارية، والاستثمار في البنى التحتية والطاقة والتعدين والمنسوجات. كما أن الطائرات المسيرة التركية تحظى برواج واسع في القارة، واستثمرت تركيا في تنامي علاقاتها الدفاعية لتدعيم التعاون في قطاعات غير أمنية أيضا.
وبالنظر إلى تنامي الدور التركي، ينبغي للولايات المتحدة تحديد مجالات للتعاون. ويقول كار إن "مكافحة الإرهاب" هي أحد أبرز هذه المجالات. فقد أرسلت كل من الولايات المتحدة وتركيا مدربين ومعدات لدعم الصومال ودول غرب أفريقيا في مواجهة تصاعد تمردي "القاعدة" و"داعش".
وفي هذا السياق، يتعين على المسؤولين الأمريكيين تحديد الجهود المكررة أكثر من اللازم واستكشاف مجالات لتقاسم الأعباء بصورة أفضل. إذ تبحث واشنطن بالفعل إمكانية التعاون مع دول ثالثة لتدريب القوات المحلية في منطقة الساحل الأفريقي، ضمن مساعيها لإعادة بناء شراكات مع هذه الدول رغم القيود القانونية المفروضة على المساعدات الأمريكية المباشرة.
وتفيد تقارير بأن تركيا تخطط بالفعل لإرسال مدربين إلى النيجر، كما تعد شريكا طبيعيا في الصومال، حيث تقوم القوات الأمريكية والتركية على حد سواء بتدريب وحدات صومالية منفصلة. وبوسع الولايات المتحدة أن تركز على مشاركة المعلومات الاستخبارية مع القوات المحلية الشريكة، وسد الفجوات في المعدات غير القتالية، ودعم الجهود الأوسع لبناء القدرات المؤسسية.
أما على صعيد الطاقة في أفريقيا، فإن التعاون مع تركيا سيساعد على تحقيق هدف ترامب المتمثل في تقليص واردات تركيا من الطاقة الروسية. فتركيا، التي تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة، باتت تتجه بشكل متزايد إلى أفريقيا لخفض التكاليف وتنويع مصادرها. ومن شأن تحديد فرص مشتركة لمشاريع أمريكية–تركية في مجال الطاقة أن يقلل المخاطر على الشركات الأمريكية، ويساعد أفريقيا في تطوير مواردها، ويمكن تركيا من تقليص اعتمادها على روسيا بالنسبة لواردات الطاقة.
ويسهم التعاون في مجال الطاقة والبنية التحتية بدوره في تعزيز الجهود الأمريكية والأفريقية لتطوير سلاسل إمداد المعادن الاستراتيجية. إذ تحتل تركيا المرتبة الثانية بعد الصين في استثمارات البنى التحتية بالقارة، حيث حصلت شركات المقاولات التركية منذ عام 1972 على عقود تقارب قيمتها 100 مليار دولار، شملت مطارات وطرقا سريعة وسككا حديدية وموانئ بحرية. ولتطوير سلاسل إمداد المعادن في أفريقيا، هناك حاجة إلى مزيد من الطاقة لتشغيل الصناعات التعدينية كثيفة الاستهلاك للطاقة، وإلى بنى تحتية أفضل لربط المناجم بممرات النقل الداخلية والموانئ الإقليمية.
ويقول كار إن تركيا تعد أيضا بمثابة عامل موازنة محتمل أمام النفوذ الصيني أو الروسي في أفريقيا. فقد استغلت روسيا تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل لتوسيع حضورها كشريك أمني بديل، وهو ما كان كارثيا على المصالح المشتركة الأفريقية والغربية في مكافحة الإرهاب. وفي ظل تقليص الوجود الغربي وتعثر روسيا، تعاظم دور الصين عبر توفير المعدات والتدريب.
لكن، ورغم وجود قنوات للتعاون، ينبغي أن يكون المسؤولون الأمريكيون واضحين بشأن حدود الشراكة مع تركيا. فبينما يمكن أن تشكل أنقرة بديلا للصين أو روسيا، تتباين المصالح التركية والأمريكية فيما يتعلق بالتصدي الصارم أو احتواء النفوذ الصيني والروسي. وغالبا ما سعت تركيا إلى الموازنة بين بكين وموسكو والغرب، بل إنها في بعض الحالات قد تنفتح على تعاون انتهازي مع خصوم الولايات المتحدة.
كما أن تركيا لم تكن شريكا ثابتا أو موثوقا به باستمرار. فهي تستفيد حاليا من تآكل النفوذ الغربي في أفريقيا، وتستند في ذلك إلى بعض السرديات المعادية للغرب والاستعمار، أسوة بالصين وروسيا. ورغم أن هذه الاستراتيجية جاءت حتى الآن على حساب القوى الأوروبية الاستعمارية السابقة، فإنها تولد بعض التوترات مع الولايات المتحدة.
ويقول كار إنه يجب على واشنطن ألا تخاطر بإسناد عمليات مكافحة الإرهاب إلى تركيا، إذ لم تثبت أنقرة بعد قدرتها على أن تكون شريكا رئيسيا في هذا المجال. فالقوات الصومالية التي دربتها تركيا أظهرت سلوكا وأداء أضعف من تلك التي دربتها الولايات المتحدة، ما يسلط الضوء على نقاط الضعف المحتملة في النهج التركي. كما أن الطائرات المسيرة التركية لم تغير الواقع الاستراتيجي القاتم في بؤر الإرهاب مثل الساحل والصومال. وقد أبرز اعتماد واشنطن المفرط على فرنسا في الساحل، وما تبعه من ارتباك أمريكي بعد إقصاء حليفها من المنطقة، المخاطر الكامنة في الإفراط بالاعتماد على شركاء من دول ثالثة.
ويختم كار بالقول إن اتساع الدور التركي في أفريقيا يضعها في موقع شريك محتمل في وقت يواجه فيه النفوذ الأمريكي والغربي تحديات متنامية. ورغم أن تركيا بعيدة عن أن تكون شريكا مثاليا، فإن بوسع المسؤولين الأمريكيين أن يصوغوا علاقة عمل إيجابية من خلال أخذ زمام المبادرة والسعي لفرص تعاون أكبر، ولا سيما في مجالات تترابط فيها المصالح مثل مكافحة الإرهاب والطاقة والبنى التحتية.