مع بدء سريان وقف إطلاق النار في غزة، بعد حرب إبادة استمرت عامين ارتكب خلالها جيش الاحتلال الإسرائيلي مئات المجازر وفرض سياسة تجويع ممنهجة، نهض المشهد الفلسطيني من تحت الركام ليعيد إلى الواجهة أحد أقدم الحقوق وأعمقها في الوجدان الفلسطيني وهو "حق العودة".
لم يكن المشهد مجرد عودة إلى البيوت المهدّمة أو الأحياء المحطمة، بل كان إعلانًا حيًّا بأن الفلسطيني، رغم التهجير والدمار، لا يزال متمسكًا بأرضه وذاكرته وحقه، رافضًا محاولات الاقتلاع ومحو الهوية التي استهدفت وجوده منذ النكبة وحتى اليوم.
لقد قدّم الشعب الفلسطيني نموذجًا استثنائيًا في الصمود، أثبت خلاله أن "فلسطين ليست أرضًا بلا شعب" كما زعمت الرواية الصهيونية، بل وطنٌ حيّ بشعب لا يموت، يحمل ذاكرة المكان، وكرامة التاريخ.
وهكذا، أعاد مشهد تدفق مئات الآلاف من سكان غزة العائدين إلى مدنهم ومنازلهم، رغم الدمار الهائل، رمزية حق العودة إلى الواجهة، لا كحلم، بل كواقع حيّ ينبض بالإصرار.
حق العودة.. القانون الذي لا يسقط بالتقادم
"حق العودة" هو حق أصيل لكل فلسطيني طُرد أو أُجبر على مغادرة بيته منذ نكبة عام 1948، ويشمل كذلك أبناءهم وأحفادهم، أينما وُلدوا، ومهما اختلفت ظروفهم. لا يتعلّق هذا الحق بالحنين فقط، بل يستند إلى قواعد صلبة في القانون الدولي والمواثيق الأممية.
فقد نصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الـ13 على أن: "لكل إنسان الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إليه"، وفي المادة 17 أُكّد أن: "لا يجوز حرمان أحد من ممتلكاته بشكل تعسفي". أما المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، فقد حظرت الترحيل أو النقل القسري للسكان من الأراضي المحتلة.
وربما أبرز وثيقة تؤكد هذا الحق هي القرار الأممي رقم 194، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، والذي شدد على "وجوب السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم في أقرب وقت ممكن"، أو تعويض من لا يرغب في العودة، سواء عن ممتلكاته أو الأضرار التي لحقت به.
نكبة مستمرة.. واللاجئ لا يزال يحمل عنوان بيته
في عام 1948، هجّرت العصابات الصهيونية نحو 957 ألف فلسطيني من أصل 1.4 مليون نسمة، كانوا يعيشون في فلسطين التاريخية، تحوّلوا إلى لاجئين بين ليلة وضحاها، بينما بقي في الداخل نحو 150 ألفًا فقط، منهم 46 ألفًا جرى تهجيرهم داخليًا. ورغم مرور أكثر من 75 عامًا، لا تزال إسرائيل ترفض السماح لهم بالعودة، بل وسنّت قوانين عنصرية، كان أخطرها ما سُمي بـ"قانون القومية"، الذي ينكر حق العودة، ويلغي مسؤولية الاحتلال عن النكبة، ويدّعي أن أرض فلسطين تخص اليهود فقط.
إلا أن المفارقة المؤلمة هي أن 90% من القرى المهجرة لا تزال شاغرة، لم يُبنَ عليها شيء، بينما بقيت منازل اللاجئين في المدن الكبرى كما كانت، استولت عليها "الوكالة اليهودية" ومنحتها للمهاجرين اليهود القادمين من أنحاء العالم.
اليوم، يُقدّر عدد اللاجئين الفلسطينيين بنحو 7 ملايين لاجئ، يعيش معظمهم على بُعد أقل من 100 كيلومتر من حدود فلسطين التاريخية، ولا تزال غزة والضفة الغربية تحتضنان النسبة الكبرى منهم، خاصة في مخيمات باتت معالم وطنية قائمة بذاتها. ووفق إحصائيات وكالة الأونروا لعام 2017، فإن عدد اللاجئين المسجلين لديها تجاوز 5.9 مليون لاجئ، ما يشكل الحد الأدنى من العدد الحقيقي.
المفتاح.. ذاكرة لا تصدأ
ليس في حياة اللاجئ الفلسطيني رمزٌ أقوى من "مفتاح العودة"، ذاك المفتاح المعدني الذي حمله اللاجئون معهم عند التهجير، مؤمنين أن الغياب لن يطول، وأن العودة قريبة. ومع مرور السنوات، تحوّل المفتاح إلى أيقونة نضال وذاكرة وهوية.
ترى هذا المفتاح اليوم معلّقًا في البيوت، محفورًا على الجدران، ومرفوعًا في المظاهرات، ومجسّدًا عند مداخل المخيمات في الضفة ولبنان وسوريا. صار يُورث كما يُورث الاسم، ويحمله الأحفاد وفاءً لحق أجدادهم. وأصبح رمزًا عالميًا للحق، ينافس الكوفية الفلسطينية في التعبير عن الهوية والانتماء.
وفي عام 2022، كرّمت قطر هذا الرمز ببناء أكبر مجسم لمفتاح العودة في العالم، نُصب في الحي الثقافي "كتارا" بالدوحة، بطول 7.8 متر، وعرض 2.8 متر، ووزن 2.7 طن، ودُوّن اسمه في موسوعة جينيس، ليبقى شاهدًا ماديًا على ذاكرة لم تُنسَ.
حين تتغنّى الأغنية بالعودة
ليس غريبًا أن يحتل حق العودة مساحة كبيرة في وجدان الفلسطيني، وأن يحضر في الفن كما يحضر في القانون والسياسة. ففي ختام أغنية "جسر العودة"، تنشد فيروز بكلمات كتبها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني:
"سلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة،
يا منزرعين بمنازلكم،
قلبي معكم وسلامي لكم،
والمجد لأطفالٍ آتين..
الليلة قد بلغوا العشرين،
لهم الشمس، لهم القدس،
والنصر وساحات فلسطين."
لا تتوقف الأغنية عند وصف النكبة، بل تتنبأ بجيل جديد، وعودة حتمية، ونصر قادم. وهكذا، يصبح الغناء أداة مقاومة، واللحن وعدًا مؤجلًا لا يُمحى.
العودة.. ليست حلمًا بل موعدًا
لقد أثبت الفلسطيني، مرةً تلو أخرى، أن العودة ليست مجرّد شعار يُرفع في المناسبات، بل جزء حيّ من الذاكرة والهوية، ورمزٌ يتجدد في كل محطة من محطات النضال. من خيمة اللجوء، إلى حجر المقاومة، إلى المفتاح المعلّق، إلى الطفل الذي يحمل اسم قريته المهجرة، تعيش العودة في التفاصيل، وفي القلوب، وفي الوعي الجمعي.