يترقب العالم وفي المقدمة منه أوكرانيا، القمة التي ستجمع الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين غدا الجمعة في ولاية ألاسكا الأمريكية على أمل أن تفتح الباب نحو إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة منذ 30 شهرا تقريبا.
في الوقت نفسه ينتقد معلقون هذه القمة بسبب غياب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عنها في الوقت الذي ستبحث فيه مصير بلاده. ويخشى هؤلاء المعلقون من احتمال تقديم الرئيس ترامب تنازلات لنظيره الروسي فلاديمير بوتين.
لكن بول ساندرز رئيس مركز أبحاث ناشونال إنتريست الأمريكي والخبير في السياسة الخارجية الأمريكية يرى في تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست، أن هذا القلق يغفل عن جوهر المسألة، عدم وجود أي أدلة مقنعة على رغبة بوتين نفسه في التوصل إلى اتفاق لإنهاء حربه في أوكرانيا، وهو ما يمثل التحدي الرئيسي لأي وقف لإطلاق نار أو اتفاق سلام وليس من سيجلس على الطاولة ولا ما قد يقدمه ترامب من تنازلات.
فالمفاوضات لا يمكن أن تنجح إلا إذا اقتنع الطرفان بأن التسوية أفضل من استمرار الوضع الراهن والبدائل الأخرى الممكنة. وحتى الآن، يبدو أن الرئيس الروسي يعتقد أنه منتصر، وأنه لا يرى سببًا مقنعًا للتنازل الآن عما يتوقع تحقيقه لاحقًا. في الوقت نفسه، ورغم التلميحات المتكررة بأن الاقتصاد الروسي يعاني في ظل العقوبات الأمريكية والغربية، لا توجد أدلة تُذكر على أن الزعيم الروسي يشعر بالضغط لتقديم تنازلات كبيرة نتيجة لذلك. كما أن الخسائر المتزايدة لا تسبب ضغطا محليا عليه، خاصة وأنه نجح حتى الآن، في إدارة هذه المشكلة السياسية الداخلية بإصراره على أن غزوه كان ضروريًا لأمن روسيا وليس اختياريًا.
ويقول ساندرز المستشار الكبير في "مشروع منتدى إبداع الطاقة" والذي تولى رئاسته خلال الفترة من 2019 إلى 2024: سواء سافر زيلينسكي إلى ألاسكا للقاء ترامب أو ترامب وبوتين أم لا، من المحتمل أن يخشى الرئيس من الضغط عليه لتقديم تنازلات قد لا يضطر إليها إذا حصلت بلاده على المزيد من المساعدة الخارجية. وبما أنه يستطيع الاعتماد إلى حد ما على بوتين لرفض الاجتماع معه، فإن حملة الضغط على ترامب لضمه لا تكلف الكثير، وتذكر الجميع بأن موافقة كييف على أي تسوية ستكون ضرورية في النهاية.
والحقيقة هي أن بوتين شديد الثقة في قدرته على تحقيق النصر العسكري، رغم أن التقدم الذي تحققه بلاده في ساحة المعركة بطييء. وتعود هذه الثقة إلى عاملين اثنين، الأول أن المراقبين الروس يرون أن روسيا أقدر من أوكرانيا على الفوز بأي حرب استنزاف طويلة، بفضل كثرة سكان الأولى ومواردها الاقتصادية والعسكرية. العامل الثاني والأهم هو أن استراتيجية روسيا لا تتطلب غزو الأراضي الأوكرانية لتحقيق النتائج السياسية التي يُفضلها الكرملين. بل على العكس، وبشكل يُذكرنا بكارل فون كلاوزفيتز، حيث تفترض الاستراتيجية الروسية أن النصر العسكري سيأتي نتيجةً لفشل الإرادة في كييف وواشنطن والعواصم الأوروبية الرئيسية.
وهناك عقبة أخرى تعرقل الوصول إلى السلام في وقت قريب وتتمثل في أن بوتين كان في يوم من الأيام أكثر براجماتية مما يبدو عليه اليوم. فمنذ أشهره الأولى في السلطة وحتى عامي 2010 و2012 تقريبًا، أدرك الفوائد المحتملة للعمل مع الولايات المتحدة، وسعى إلى بناء علاقة أكثر تعاونًا. وكان معروفًا بكونه أول زعيم أجنبي اتصل بالرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الابن بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، ليؤكد تعاطفه ودعمه للولايات المتحدة، وتسامح مع وجود قواعد أمريكية في آسيا الوسطى (لفترة من الوقت). لم يكن أيٌّ من هذا يعني سعيه إلى الصداقة؛ بل كان مستعدًا لفصل الخلافات عن بعضها البعض سعيًا وراء مصالح روسيا.
وعلى مدار العقد الماضي، وخاصة بعد عودته إلى الرئاسة عام 2012، ازداد موقف بوتين تشددًا. وأصبحت خطاباته وأفعاله أكثر أيديولوجيةً وتبنيا للمعادلات الصفرية، فضم شبه جزيرة القرم، وتدخل عسكريا في سوريا، ووسع نطاق القمع في الداخل، وبدأ يروج لرواية حضارية تصور الغرب على أنه منحط وعدائي. وعندما يحدد أي قائد النجاح بمصطلحات حضارية وأخلاقية، تصبح التنازلات مكلفة سياسيًا وشخصيًا.
لذلك حتى إذا تنازل ترامب لبوتين عن الأراضي الأوكرانية، فإنه لن يُنهي الحرب، بل سيُسلم ضحاياها الأكثر عزلة للرئيس الروسي.
كما أن بوتين يعتقد الآن أنه حاول العمل مع أربعة أو خمسة رؤساء أمريكيين واقتنع أن النخب الأمريكية تعارض ما سعى إليه في تحسين العلاقة الأمريكية الروسية. لذا، حتى لو كان ترامب شخصيا يفضل تحسين العلاقات، فإن المعارضة في الكونجرس ووسائل الإعلام الأمريكية، وحتى داخل إدارة ترامب نفسها ستحول دون تقارب حقيقي، خاصة وأن المعادين لروسيا في دوائر صناعة القرار الأمريكي هم الذين يسيطرون على النقاش في واشنطن.
كما تدرك الحكومة الروسية أيضًا اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في العام المقبل، والتي قد تسفر عن تحقيقات جديدة أو أكثر ضد ترامب. كما قد تسلّم الانتخابات الرئاسية لعام 2028 البيت الأبيض إلى زعيم ديمقراطي. ولأن بوتين يعتقد أن "النظام" الأمريكي سيعمل على عرقلة أي تقارب، إن لم يكن الآن، فبعد الانتخابات القادمة، فليس لديه حافز يُذكر لمقايضة مكاسبه الميدانية التي حققها بشق الأنفس بوعود أمريكية يتوقع من الآخرين معارضتها ونقضها.
أخيرا فإن الجدل حول من سيحضر قمة ألاسكا والتنازلات الافتراضية فيها يشتت الانتباه عن حقيقة جوهرية، وهي أن أقوال الكرملين وأفعاله تشير إلى أن بوتين يفضل مساره الحالي ويعتقد أنه سينجح. وإلى أن تؤكد أدلة موثوقة عكس ذلك، ينبغي على صانعي السياسات الأمريكيين اعتبار هذا الاجتماع مجرد اختبار للنوايا وليس فرصةً لتحقيق سلام سريع.