كنا قريبين، أو مقرّبين، لفترة غير قصيرة، ولكن فى سنوات بعيدة، لعلها بدأت فى أوائل ثمانينيات القرن الماضى، مع لقاء أجريت فيه معه حوارا مطولا نشر فى مجلة «اليوم السابع» التى كانت تصدر فى باريس... كان حوارا جادا ومفصّلا، وكان حضوره فيه جميلا ومتدفقا ومتألقا..
*
اصطحبنى مرة، فى السنوات البعيدة نفسها، إلى دار «المستقبل العربى» وقدمنى إلى الأستاذة سميرة الكيلانى (المثقفة، والودودة، زوجة الراحل الكبير الأستاذ محمود أمين العالم، ووالدة الدكتورة شهرت العالم.. وهى نفسها الإعلامية اللامعة بالتليفزيون المصرى فى زمن سابق).. وكان اللقاء من أجل أن أعمل فى جانب صحفى يتعلق بدار النشر هذه.. (وقد تم هذا لفترة قصيرة).
خلال السنوات التالية، تعددت اللقاءات التى جمعتنا.. كنت مشدوها بقدرته على العمل المنظم المحترف، والزهد الشديد فى التعامل مع متطلبات الحياة، والاحترام الجمّ لبعض ما تمنحه هذه الحياة من طيبات صغيرة..
وكان معجبا بما تصوره عن «ذائقة» أمتلكها تجاه الأعمال الإبداعية، ومطمئنا إلى ما قلته له من ملاحظات حول رواياته التى كان قد نشرها، وحوّل بعض أعماله التى قدمها لى قبل النشر، ومن بينها روايته (ذات) التى سلمها لى وهى مخطوطة، وانتظر ملاحظاتى، ثم أخذ ببعض هذه الملاحظات، وكان نبيلا عندما صدّرها، عند نشرها، بتقديم «الشكر» لعدد من الأسماء، كنت واحدا منهم.. ومن بينهم، فيما أستعيد، كان الشكر: «للأستاذة ليلى عويس، ومحمد برادة، و«فلان» «الذى هو أنا»، الذى تكرم بمراجعة المخطوطة بالدقة التى يتميز بها، « ـ بكلمات الأستاذ صنع الله.. والحقيقة أن المتعة التى منحتها لى قراءة الرواية، وهى مخطوطة، كانت بلا حدّ».
**
.. مرت سنوات طويلة ظللت أتابع فيها كل ما يكتب، وكتبت أثناءها عن غير عمل له.. وظلت اللقاءات التى تجمعنا قائمة ولكنها أصبحت متباعدة.. وربما حلّت المكالمات التليفونية محل الكثير منها.. وكنت سعيدا بما كتبه فى مقدمة طبعة جديدة لروايته (تلك الرائحة) مع بعض قصصه القصيرة، وكان فيها يمثل استثناء من بين كتاب كثيرين جمعتهم مع نجيب محفوظ مظلة «أولاد الكار الواحد».. كان هو الأكثر إنصافا تجاه تجربة نجيب محفوظ، وقد كتب فى هذه المقدمة: إن نجيب محفوظ، خلال رواياته التى أصدرها فى الستينيات، أعطى ظهره لما كتب من قبل (وأنا أستعيد بعض ما كتب): «ليخوض مغامرات مثيرة، قفز فيها بالفن الروائى العربى قرنا بأكمله».. وكان قوله هذا يمثل موقفا مختلفا، وربما مناقضا، لمواقف كتاب آخرين سجنوا تجربة نجيب محفوظ فى تصور ضيق لا يرى من أعماله شيئا سوى ما كتبه فى الأربعينيات والخمسينيات.. وقال بعضهم، ببساطة غريبة، إنه مجرد «كاتب كلاسيكى»..
**
فى الحفل الشهير، الذى رفض فيه تسلم جائزة ملتقى الرواية العربية بالقاهرة، كان فى قلب المشهد، وكنت على هامشه.. فقد كنت مع الدكتور أحمد مجاهد أمينين للجنة التحكيم التى منحته الجائزة التى يستحقها، وقد ضمت هذه اللجنة أسماء نقدية وإبداعية تحظى باحترام وافر (كان من بينها: الطيب صالح، ومحمود أمين العالم، وسيزا قاسم، وعبد الله الغذامى، وفريال غزول، ومحمد برادة، ومحمد شاهين، وفيصل دراج ـ مع حفظ الألقاب).
صعد إلى خشبة المسرح التى كنا واقفين عليها فى صف واحد.. وبدأ يصافحنا واحدا واحدا.. عندما صافحنى لمعت عيناه من خلف نظارته فى لحظة، ولعله استعاد فيها، واستعدت، سنوات تقاربنا (أو لعلى تصورت هذا!).. ثم تقدم إلى حيث ألقى، واقفا، كلمته التى حيّا فيها لجنة التحكيم، والتى رفض فيها الجائزة، وعدّد فيها أسباب رفضه..
**
خلال رحلة مرضه الأخيرة والأخير.. ومعاناته التى ظللت أتخيلها من بعيد.. لم أستطع أن أزوره أو أتصل به.. ظللت من بعيد أتألم له ولى، ولكل من اقترب من عالمه.. ولعلى كنت أدرك النهاية التى سوف يصل ونصل إليها جميعا، بقطع النظر عن التوقيت..
واليوم أتصور أنه قد استراح من أوجاع كثيرة، بعد تعب طويل ومتنوع الوجهات.. وأتصور أيضا أنه قد رحل وهو واثق من أهمية ما وهبه لنا قبل رحيله: القيم التى بثّها فى أعماله الإبداعية التى كتبها بإخلاص لا حدّ له، وزاوج فيها بين الوعى والجمال.. والقيم التى انطلق منها خلال مواقف مشهودة «ظل فيها هو نفسه» دائما، نزيها وشريفا وبعيدا تماما عن أى ادعاء أو كذب أو زيف.
(من كتاب «الراحلين المقيمين»)