في أول ظهور علني منذ سنوات طويلة، بدا الأسير والمناضل الفلسطيني مروان البرغوثي هزيلاً، في مشهد يؤكد المعاناة التي عاشها من إهمال طبي متعمد وسوء المعاملة في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من 23 عامًا.
وجاء ظهوره، في مقطع فيديو نشرته وسائل إعلام عبرية، خلال اقتحام وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال إيتمار بن غفير للزنزانة الانفرادية للبرغوثي، موجّهًا له تهديدات قائلاً: "لن تنتصر. من يعبث بشعب إسرائيل.. سنبيده"، في مشهد أشعل موجات التنديد والغضب.
زوجته: ستظل حرًّا ولن تفلح محاولات كسرك
من جانبها، قالت فدوى البرغوثي، زوجة مروان، عقب نشر الفيديو، إنها لم تتعرف على زوجها في المقطع المصوّر.
وأضافت في بيان: "ربما جزء مني لا يريد أن يقر بكل ما يعبر عنه وجهك وجسدك، وبما عانيته أنت وبقية الأسرى".
وتابعت: "ما زالوا، يا مروان، يطاردونك ويلاحقونك حتى في الزنزانة الانفرادية التي عشت فيها لعامين. ما زال الاحتلال ورموزه في صراع معك، وما زالت القيود في يديك، لكنني أعرف روحك وعزيمتك، وأعرف أنك ستظل حرًّا".
ووثّق البرغوثي مشاهد القسوة التي عاناها في سجون الاحتلال في صفحات كتابه "ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي"، حيث يروي فيه تفاصيل الانتهاكات التي تعرض لها منذ لحظة القبض عليه وداخل غرف التحقيق.
اعتقال البرغوثي.. الاحتلال يحاول ضرب الانتفاضة
يقول مروان البرغوثي: بعد إغلاق مراكز التحقيق التابعة للمخابرات الإسرائيلية "الشاباك" في الضفة الغربية وقطاع غزة، كان المشهد الاحتفالي واضحًا على وجوه ضباط التحقيق لحظة دخولي، إذ بدا عليهم الزهو وكأنهم حققوا إنجازًا كبيرًا. كانوا يعتقدون أن اعتقالي سيشكل ضربة قاصمة للانتفاضة، خاصة بعد فشلهم في أكثر من محاولة لاغتيالي، مستخدمين شتى الوسائل والأساليب.
الانتفاضة.. فعل شعبي متجذّر
يتابع: لكن ملامحهم تغيرت حين أدركوا أن الانتفاضة لن تتوقف باعتقال شخص أو حتى آلاف، وأنها فعل شعبي متجذّر في وعي الفلسطينيين. دخلت غرفة التحقيق في الساعات الأولى، فرأيت أمامي عددًا من قادة وضباط المخابرات، يقدمون أنفسهم واحدًا تلو الآخر، وكانت نظرات الحقد والكراهية واضحة في عيونهم، تحمل تاريخًا طويلًا من القمع وسجلًا أسود من الجرائم.
يوضح: كان بينهم رئيس قسم التحقيق في "الشاباك" المدعو إيفي، الذي تولى بنفسه الاعتداء عليّ بالضرب والركل، وأصدر أوامره لرجاله بمواصلة الصفع والشتم. كان المشهد يقطر حقدًا ممزوجًا بغطرسة المحتل ووهم تفوقه.
مواجهة شجاعة في غرف التحقيق
يتذكر: بعد نحو ساعتين في غرفة التحقيق بالمسكوبية، دخل رجل أظهر الحاضرون له احترامًا خاصًا. سألني مباشرة إن كنت أعرفه أو أتذكره، ولم أستطع. عندها قال إنه "عوفر ديكل". حينها استعدت ذاكرة التحقيق معي عام 1978 في زنازين رام الله، فقلت له: نعم، أنت المدعو غزال. فأجاب بأن اسمه الآن عوفر ديكل، وأنه نائب رئيس "الشاباك"، وأنه كان ينسق مع بعض المسؤولين الأمنيين الفلسطينيين قبل استقالته عام 2005.
يضيف: أخبرني أنه سبق وأرسل إليّ تحذيرات شديدة، وأنه "يفترض ألا أكون على قيد الحياة". ثم تابع بنبرة تهديد، قائلاً إنني أضفت إلى عمري ما لا ينبغي، وأن مستقبلي سيكون مظلمًا. أجبته بأنني مؤمن أن ما تبقى من عمري سيبقى خلف جدران السجن، لكن اسمي سيظل حاضرًا في ذاكرة شعبنا، أما هو ومن معه فسيمحوهم النسيان.
يصف: تذكرت لحظة المواجهة معه قبل عقود، حين كان شابًا يُدعى غزال وشارك في التحقيق معي عام 1978، وكيف أننا اليوم نلتقي مجددًا في معركة لم تنتهِ. إنها مواجهة بين مناضل يقاتل من أجل حرية شعبه وبلاده، وبين محتل وجلّاد يبرر جرائمه باسم الأمن.
يستطرد: كنت أتصور أن السنوات قد تغير قناعاته، لكنني وجدته أسيرًا لفكره العنصري القديم. قلت له: أنت كبرت في بيئة الفقر والاضطهاد، لكنك كبرت أيضًا على القسوة والظلم، أما أنا، فقد نشأت مع شعب مؤمن بأن القوة زائلة وأن إرادة الشعوب باقية.
الألم الجسدي وألم الذكريات
يشير البرغوثي إلى أنه، وفي حضوره، عادت إلى ذهني تفاصيل التحقيق الوحشي الذي تعرضت له، حين شارك فيه ثلاثة محققين كان أشرسهم ضابط يدعى سامي. مارس معي أسوأ أنواع التعذيب النفسي والجسدي، من الوقوف لساعات طويلة مقيّد اليدين إلى الجدار، إلى الضرب المبرح على الرأس والوجه، مرورًا بالحرمان من الطعام والماء، والشتائم المهينة. كان الهدف إذلالي وكسر إرادتي.
يلفت: لم أكن أتوقع أن أواجه، بعد كل هذه السنوات، نفس العذاب المعنوي. لكن وجود غزال أمامي أعاد إلى جسدي كل الآلام، خاصة ذكريات يوم 23 يونيو 1978، حين ألقوا بي على الأرض، سال الدم من رأسي، وتركوا جرحًا غائرًا في جبيني، وأفقدوني الوعي. استيقظت بعدها على صوت ارتطام الماء البارد برأسي، بينما كان سامي يهددني قائلاً: "الآن أعتقد أنك لن تستطيع النجاة".