في عالم تغمرنا فيه شاشات الهاتف وإشعارات التطبيقات والوجبات السريعة، يواجه الدماغ تحديا جديدا: كيف يوازن بين الرغبة المستمرة في الشعور بالمتعة وبين الحفاظ على استقراره النفسي؟
في السطور التالية، نستعرض أبرز ما جاء في تقرير حديث نشرته شبكة CNN الأمريكية، أوضحت فيه آنا ليمبكي أستاذة الطب النفسي بجامعة ستانفورد، كيف تتحكم مادة الدوبامين في مشاعرنا وسلوكياتنا، وطرق استعادة التوازن في زمن المتع السريعة والإدمان الصامت.
ما هو الدوبامين؟ ولماذا هو مهم؟
الدوبامين هو مادة كيميائية يصنعها الدماغ وتعرف بأنها ناقل عصبي مسئول عن تنظيم الدوائر الكهربائية داخل الدماغ بدقة. حيث يشبه الدماغ شبكة من الأسلاك الناقلة للإشارات، ويعد الدوبامين أحد أبرز العناصر التي تجعلنا نشعر بالمتعة والتحفيز وتدفعنا إلى تكرار بعض السلوكيات.
ورغم أن هناك موادا أخرى تشارك في هذه الوظائف، إلا أن الدوبامين أصبح المؤشر الأهم لدى علماء الأعصاب لقياس تأثير الأطعمة، السلوكيات، وحتى المخدرات على الدماغ.
اختلال التوازن من المتعة إلى الإدمان
أوضح التقرير أن الإدمان ليس مجرد تعاطي مواد، بل هو خلل في نظام المكافأة بالدماغ يعتمد بشكل أساسي على الدوبامين، فعند ممارسة سلوك ممتع أو تناول طعام لذيذ، يفرز الدماغ الدوبامين في مسار المكافأة، وكأن الدماغ يرسل إشارة بتكرار هذا السلوك باعتباره سلوكا مهما للبقاء.
لكن مع وفرة المحفزات والمشتتات اليوم، من وسائل التواصل إلى الأطعمة المصنعة والوجبات السريعة، يفرز الدماغ كميات كبيرة من الدوبامين دفعة واحدة، وهو ما يتسبب في إجهاد نظام المكافأة ويؤدي لاحقا إلى انخفاض مستويات الدوبامين، فنشعر بالفتور ونفقد متعة الأشياء البسيطة، فنبحث عن محفزات أقوى، ليس للشعور بالسعادة، بل للهروب من الشعور بالسوء والملل.
ما الذي يؤدي إلى زيادة الدوبامين؟
هناك الكثير من الأنشطة التي تزيد إفراز الدوبامين، مثل التعلم وقضاء الوقت مع الأصدقاء، وهي أنشطة طبيعية ومفيدة، لكن الخطورة تكمن في السلوكيات أو المواد التي تحفز إفراز الدوبامين بكميات كبيرة ومتكررة وسريعة، مثل الأطعمة المعالجة، السكر، المخدرات، الكحول، والأهم اليوم "وسائل التواصل الاجتماعي".
هذه المحفزات تساهم في تغييرات دماغية تؤدي إلى حالة من الإدمان، ومع التوقف عنها تظهر أعراض الانسحاب مثل القلق، الحزن، الأرق، والرغبة القهرية في العودة إليها.
كيف نعرف إذا كان السلوك أو المادة تسبب مشكلة؟
حدد التقرير 3 عوامل تجعل أي مادة أو سلوك محفوفا بخطر الإدمان:
* الكمية والسرعة: أي مدى سرعة إفراز الدوبامين وكمية الإفراز.
* سهولة الوصول: كلما زادت سهولة الوصول للسلوك أو المادة، زادت فرص الإدمان.
* التكرار: التكرار المستمر يزيد من احتمالية تحول السلوك إلى إدمان.
الحل يكمن في إعادة ضبط الدماغ
قد يظن البعض أن الحل في الابتعاد عن المتعة تماما، ولكن الحل ببساطة هو استعادة توازن الدوبامين، ويوصي الخبراء بتجربة الامتناع لمدة 30 يوما عن السلوك أو المادة المسببة للإدمان كالسكر أو وسائل التواصل لمنح الدماغ فرصة لإعادة ضبط مسار المكافأة.
وخلال الأيام الأولى قد يعاني الشخص من التعب والانزعاج، لكن بعد 10 إلى 14 يوما يبدأ الشعور بالتحسن، وبعد مرور شهر إذا قرر الشخص العودة للسلوك أو المادة، يجب أن يضع خطة واضحة تحدد الكمية والظروف وعدد مرات الاستخدام ومراقبة العلامات التحذيرية للعودة للإدمان.
خطوات بسيطة وفرق كبير
وضع حواجز ذكية في حياتك اليومية يساعد على استعادة توازن الدوبامين في دماغك. ومن هذه الحواجز، يمكنك الامتناع عن تخزين الأطعمة السكرية في المنزل، حتى لا تصبح في متناول يدك في لحظات الرغبة الفورية في المكافأة السريعة، كما يمكنك التحكم في أوقات استخدام الوسائط الرقمية، بوضع أوقات محددة لتصفح مواقع التواصل أو مشاهدة الفيديوهات، وعدم ترك الهاتف يلتهم وقتك بلا وعي.
كذلك، قد تحتاج إلى تجنب الأماكن أو الأشخاص المرتبطين بالمحفزات الضارة التي تدفعك إلى الاستهلاك السريع أو العادات التي ترهق دماغك بمكافآت لحظية. وبدلا من ذلك يمكنك مشاركة الوقت مع أشخاص يتبعون أنماط استخدام صحية للتكنولوجيا والطعام والعمل، مما يساعدك على تثبيت هذه الحواجز بسهولة ويجعلها أسلوب حياة طبيعيا.
إننا نعيش في عالم يقنعنا بأن الاستهلاك المستمر هو الطريق إلى السعادة، لكن الحقيقة أن السعادة تكمن في توازن الدماغ، والسماح للمتع البسيطة بأن تمنحنا الشعور الحقيقي بالمكافأة، فإذا شعرت أنك فقدت متعة الجلوس مع الأصدقاء أو ممارسة هواياتك القديمة، وأن هاتفك يستنزف ساعات يومك بلا جدوى، فقد يكون الوقت قد حان لإعادة ضبط دماغك، وإعادة اكتشاف السعادة البسيطة من جديد.