يمثّل إنشاء الجامعات الأهلية داخل نطاق الجامعات الحكومية تطوّرًا غير مسبوق في إطار سياسة جديدة تسعى إلى إصلاح مواضع الخلل في التعليم العالي، وسيكون لهذه السياسة تداعياتها، سلبيةً كانت أم إيجابية، على خريطة تعليم العلوم بصفة عامة، وعلى خريطة العلوم الاجتماعية في التعليم العالي في مصر بصفة خاصة. وفي هذا الإطار، يتعيّن أن نطرح السؤال المهم والمؤرِّق لكل المشتغلين بالعلوم الاجتماعية: ما مصير هذا التحوّل في مستقبل العلوم الاجتماعية؟
تسير السياسة الجديدة في اتجاه إعادة هيكلة منظومة الدعم في التعليم العالي بحيث تتجه الأعداد الأكبر من الطلاب إلى التعليم العالي بمصروفات. ويتضح ذلك من تقليل أعداد المقبولين في التعليم المجاني سنويًّا (الجامعات الحكومية الأصلية)، مقابل زيادة تدريجية ومُتصاعدة سنويًّا في أعداد الطلاب المحوَّلين إلى التعليم بمصروفات (الجامعات الأهلية الجديدة). وبذلك تتحوّل الجامعة الحكومية (المرتبطة بالمجانية) إلى جامعة أهلية بمصروفات.
تنطلق هذه الإجراءات من رؤيةٍ تقول إنّ التعليمَ المجانيَّ حقٌّ أصيلٌ في مرحلتيْ التعليم الأساسي والثانوي، وإنّ المجانية في التعليم العالي بصورتها الراهنة قد فشلت في تحقيق جودة مخرجاتِه، ولا سيما في حقل العلوم الاجتماعية، الذي يستحوذ - بحسب هذا الرأي- على نصيب الأسد من موازنة التعليم العالي. وبناءً على ذلك، أخفق هذا النظام في خلق فرص عمل حقيقية وحراك اجتماعي فعلي، فضلًا عن ارتفاع نفقاته مع الضغوط السكانية والزيادة السنوية في أعداد الطلاب، دون جدوى اجتماعية أو اقتصادية تُذكر. ويذهب هذا الرأي كذلك إلى أنّ الحل يكمن في تحويل الجامعات الحكومية إلى جامعات أهلية. وهكذا تصبح الزيادة في أعداد الطلاب مصدر دخل للجامعات بعد أن كانت عبئًا عليها ، بما يتيح للجامعة أن تكتفي ذاتيًّا بموازنتها بعيدًا عن الموازنة العامة للدولة. وهذا ما يَرِد في تصريحات بعض القيادات الجامعية المؤيِّدة لهذه السياسة والمشاركة في تنفيذها بفاعلية.
وبغضّ النظر عن مدى صحة هذا الرأي وتداعياته الاجتماعية (وهو موضوع يستحق مقالًا آخر)، فسأجيب في هذا المقال عن السؤال الذي طرحته في البداية: كيف تواجه العلوم الاجتماعية والإنسانية هذا التطوّر الجديد؟ للأسف، لا توجد لدى المشتغلين بالعلوم الاجتماعية مؤشّرات تعكس مستوى الوعي بهذا التحوّل وتداعياته؛ ومن ثمّ لا توجد رؤى بديلة. لذلك سأركّز حديثي على قراءة المشهد بالتركيز على حال علم الاجتماع، مع اقتراح رؤية بديلة للنقاش.
أتوقّع، في ظل استمرار هذه السياسة الجديدة، أن تُهاجر أقسامُ اللغات بكليات الآداب بالجامعات الحكومية المجانية إلى العمل في الجامعات الأهلية ذات المصروفات، بناءً على حجم الطلب المجتمعي عليها، مقابل إغلاق أقسام العلوم الاجتماعية كافة، وفي مقدّمتها قسم الاجتماع، بمقتضى انعدام الطلب المجتمعي على تلك الأقسام بعد سنوات من الإخفاق في الجودة والجدوى.
وأتوقّع أيضًا أن يبقى من أقسام العلوم الاجتماعية، في الوضع الجديد، التخصّصاتُ القادرة على تلبية حاجات سوق العمل مثل: الاقتصاد وإدارة الأعمال والتسويق، وفي حدود معيّنة خاضعة لمبدأ العرض والطلب. أمّا أقسام علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس والجغرافيا والتاريخ والعلوم السياسية والقانون والإدارة العامة، فلن تجد مكانًا في خريطة التعليم العالي الجديد القائم على المصروفات؛ وستذوب هذه التخصّصات الفانية في التخصّصات الأخرى الباقية أو بالأحرى- الناجية، بشرط القيام بمهامّ مكملة للتخصّصات الأخرى وبأعداد قليلة من أعضاء هيئة التدريس.
أمّا علم الاجتماع فلن يبقى له منفذٌ إلى البقاء سوى الدراسات العليا، بشرط الالتزام بالدقة الشديدة والجودة الفائقة في منح رسائل الماجستير والدكتوراه والدبلومات، والانفتاح على التخصّصات الأخرى.
وهذا يعني أنّ الطريق الوحيد المتاح لإنقاذ علم الاجتماع من مصير بائس هو البحث عن أفق جديد يقوم على ركيزتين:
1. الجودة الفائقة في مجال الدراسات العليا لاكتساب مصداقية في المنظومة الجديدة.
2. الانفتاح على التخصّصات البينية سواء في التعليم الجامعي أو الدراسات العليا، لمواكبة التطوّرات الجديدة في العلم وفي سوق العمل.
وللأسف هذا الوعي غائب لدى الغالبية منا.
وإذا لم تُبادِر أقسام علم الاجتماع في مصر إلى إصلاح أحوالها على هذا النحو، فمصيرها الغلق التام والخروج النهائي من الخريطة الأكاديمية، في لحظة تحوّل يشهدها واقع التعليم العالي الآن للمرة الأولى منذ سبعة عقود. إنها لحظة فارقة في تاريخ العلوم الاجتماعية بصفة عامة، وتاريخ علم الاجتماع في مصر بصفة خاصة، الذي يربو على قرن من الزمان. ويقتضي ذلك خطوات استثنائية لتصحيح مسار هذا التخصّص وتغليب الاعتبارات العلمية والمصلحة العامة. فهل نحن قادرون على ذلك؟
أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة