المؤلف: حرصت على تعريف القارئ الغربى بإحسان عبد القدوس أحد أكثر الكُتّاب العرب غزارة وشعبية
أجرت منصة (جدلية - Jadaliyya) الأمريكية مقابلة مع الكاتب وأستاذ الدراسات الشرق أوسطية فى جامعة دارتموث بالولايات المتحدة، جوناثان سمويلن، ناقشت خلالها أحدث كتبه بعنوان «سياسة الميلودراما: الحياة الثقافية والسياسية لإحسان عبد القدوس وجمال عبد الناصر» الصادر عن مطابع جامعة ستانفورد فى السابع عشر من ديسمبر عام 2024، وتطرقت فيها للحديث عن أرائه وأفكاره إزاء التفاعل بين الأدب والسياسة فى الحقبة الناصرية من تاريخ مصر.
وتعتبر (جدلية) منصة فكرية وثقافية إلكترونية متخصصة فى تقديم التحليلات ومراجعات الكتب والترجمات والمقالات النقدية والمعرفية حول الشئون السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية فى العالم العربى، وغالبًا ما تقدم منظورًا نقديًا مستقلًا عن السائد فى الإعلام أو الخطابات الرسمية.
وتأسست تلك المنصة بفضل (معهد الدراسات العربية)؛ وهو مؤسسة بحثية غير ربحية مقرها الولايات المتحدة، وتضم عدة مشاريع أكاديمية وثقافية يعمل بها باحثون وأكاديميون عرب وأجانب مهتمون بشئون الشرق الأوسط، ويتألف جمهورها الأساسى من الأكاديميين والباحثين وطلاب الدراسات العليا والصحفيين والمفكرين والمهتمين بقضايا الشرق الأوسط.
فى البداية، قال المؤلف إن السر وراء تأليف الكتاب هو إدراكه أن الروايات والقصص الرومانسية متعددة السلاسل لإحسان عبد القدوس، والتى لاقت رواجًا هائلًا على المستويين الشعبى والأدبى، كانت فى الواقع حمّالة أوجه؛ فمن ناحية، كانت هذه القصص مشوقة ومليئة بالإثارة، وساهمت فى تعزيز رواج مجلة «روز اليوسف» الأسبوعية الرائدة التى كان «عبد القدوس» رئيس تحريرها، ومن ناحية أخرى كان «عبد القدوس» يصوغ انفصاله السياسى المؤلم عن حليفه السابق جمال عبد الناصر فى صمت وتحت ستار برّاق من الوله والمشاعر والتقلبات الدرامية.
وكان كل عدد من هذه السلسلة القصصية يجسد، بشكل رمزى، مشاعر الأمة وحبها للضابط البطل فى ثورة 1952، ثم مشاعر الخيانة المُرة حين تخلى «ناصر» عن وعوده الدستورية لصالح الحكم العسكرى، وأضاف أنه أدرك حينها أن الميلودراما، التى تم تجاهلها لعقود بوصفها «أدبًا هابطًا»، كانت فى الواقع سجلًا شعوريًا للثورة.
وأوضح أن هذا الكتاب سمح له بإنقاذ إرث أدبى أحبه الملايين وتجاهله الأكاديميون، ومكنه من إعادة إدخال المشاعر المختلفة - كالحسرة والحنين واليأس - إلى تاريخ مصر السياسى الحديث.
وبسؤاله عن طبيعة المواضيع والقضايا التى تناولها عبر الكتاب، قال المؤلف إن أبرزها كان تسليط الضوء على حقيقة أن أعمال الميلودراما ذات السلاسل القصصية لإحسان عبد القدوس كانت بمثابة «خطاب مزدوج»؛ إذ كان يُخفى رموزًا سياسية واضحة داخل قصص حب مثيرة، وقد مكنه هذا من جذب قاعدة عريضة من الجمهور، بينما كان يمرر انتقادات حادة لناصر متجاوزًا مقص الرقابة.
وقد كانت هذه الأعمال تواكب الأحداث تقريبًا فى الزمن الحقيقى بما أن هناك عددا جديدا كانت ينشر بصورة دورية كل أسبوع، كما أن طبيعتها المفتوحة سمحت لنا برؤية تغير المعانى من عدد إلى آخر، ولقد أصبح توزيع تلك القصص الميبودرامية شكلًا من أشكال العلاج المتبادل؛ فكان «ناصر» يقرأ الفصول بنهم، وكأنها مرآة تعكس له صورته، فكان تارة يستشعر فيها المدح وتارة يستشعر فيها الاتهام وتوجيه النقد واللوم، بينما كان القرّاء يقيسون آمالهم وخيباتهم السياسية على تطور الحبكة.
وأشار المؤلف إلى أنه لهذا السبب لم تظهر الثقافة الشعبية فى تلك الأعمال كخلفية روائية فحسب؛ بل كساحة متقلبة تفاوض فيها الحاكم والمحكوم على علاقتهما، بل ودعت هذه الرؤى الباحثين فى السياسة والأدب فى الشرق الأوسط إلى اعتبار الثقافة الجماهيرية دليلا وحدثًا فى آن واحد، بل وأرشيفًا لم يجف حبره بعد (كناية عن كونه حاضرًا ومواكبًا للأحداث).
وبيّن المؤلف أن كلا من «سياسة الميلودراما» وكتابه الأول بعنوان «النوار المغربى» يطرحان سؤالًا عن كيفية تداخل أنواع الأدب الشعبى «التى على الأغلب ما تكون رخيصة أو زهيدة السعر» مع السياسة العليا، ولكنهما تناولا المسألة من زوايا متضادة؛ ففى «النوار المغربى» تتبع الكاتب كيف سعت الملكية إلى إعادة تقديم نفسها عبر صور مصقولة لرجال الشرطة الأبطال؛ حيث سعت الدولة ذاتها بأفعالها إلى فرض شروط السرد، أما فى «سياسة الميلودراما» فالأمر معكوس؛ فهنا استخدم روائى مصرى شهير أدوات الأدب الشعبى - كالتسلسل والتشويق والثنائيات الأخلاقية - ضد نظام حكم استبدادى.
وقال المؤلف إنه اعتمد على عدة مصادر فى تأليف الكتاب؛ ومنها: المجلات والصحف والإذاعة والتلفزيون، ولكنه لاحظ ملاحظة مذهلة؛ ألا وهى أن الحالة المصرية تُبرز شعور الشعب بشكل مباشر بدلًا من التلميحات المؤسسية طويلة الأمد، وذكر مثال على ذلك فى أن التحول من أدب الجريمة للكتابة الميلودرامية نقل البؤرة التحليلية للقراء من المنطق الجنائى - من تتبع الأسباب والدوافع وما شابه - إلى «الشعور الجريح أو مهيض الجناح» الذى كان يشعر به المصريون آنذاك، مما يُظهر أن الثقافة الشعبية يمكن أن تكون ساحة عامة و«غرفة اعتراف» للشعب فى الوقت ذاته.
وبسؤاله عن الأثر المرجو من قراءة كتابه، أجاب «سمويلن» أن المتخصصين فى تاريخ الشرق الأوسط والأدب العربى سيجدون فى هذا الكتاب أرشيفًا جديدًا، وقراءة مغايرة للناصرية، تركز على العاطفة بدلًا من الأيديولوجيا، كما سيستفيد باحثو الإعلام ونظريات الميلودراما من دراسة حالة «غير غربية» ترصد التصنيفات الزمنية للنوع الأدبى التى يهيمن عليها المنظور الأوروبى، أما الصحفيون والقراء المهتمون بالسلطوية، فقد يرون أصداء معاصرة فى ذلك التفاعل العجيب والعلاقة المعقدة المتشابكة بين رجل بالغ القوة والنفوذ وناقده «الأكثر مبيعًا».
وأكد أنه يأمل أن يرى القراء المصريون والعرب فى هذا الكتاب تقديرًا جادًا لذاكرتهم الثقافية، وأن يكتشفوا فى أدب إحسان عبد القدوس مفردات تساعدهم على تأمل مفاهيم إنسانية معقدة؛ كالخيانة والحب والرغبات السياسية من الحكام.