يشاهد أطفالك ما يحدث في غزة، ويشهدون جرائم الحرب على الهواء مباشرة، ويتابعون (معك) أخبار القصف المتبادل بين الكيان وإيران، ثم يعلنون عن سخطهم من هذا العالم الظالم، ويسخرون منك حين تحدثهم عن قيم مثل السلام والعدل في عالم قاسٍ وظالم يتّبع شريعة الغاب، فماذا ستفعل معهم؟ وكيف تربيهم على هذه القيم وهم يشعرون أنها اندثرت، و غير موجودة حولهم؟
سيؤلمك السؤال، لكن أرجوك لا تفكر في أن : "عندهم حق والله" وتقرر أن تتركهم "مع نفسهم" مكتفيًا بـ"ادعوا لهم ربنا ينصرهم"، لأن ذلك سيرسخ لديهم ما يعرف في علوم الاتصال بـ (متلازمة العالم القاسي).
وقبل أن أقول لك: الحل من وجهة نظر خبراء التربية وعلم النفس وعلوم الاتصال والإعلام أيضًا، دعني أحدثك قليلًا عن جورج جربنر، وهو من أهم أساتذة الإعلام، وقد أطلق في الستينات مشروع (مؤشرات العنف)، لدراسة أثر العنف في التليفزيون الأمريكي على الأطفال، وكان نتاج البحث الطويل في هذا الموضوع نظرية مهمة في نظريات الاتصال والإعلام هي "نظرية الغرس الثقافي"، والتي يؤكد فيها (جربنر) أنه كلما زادت مدة تعرضك للإعلام، زاد تأثرك بصورة العالم كما يصوّرها الإعلام، وليس كما هي في الحقيقة!!، وحين تم تطبيق الأمر على الأطفال والمراهقين، ومع المادة (العنيفة) و(نشرات الأخبار) التي يتابعونها، وجد أنهم جميعًا مصابون بما وصفوه آنذاك بمتلازمة العالم القاسي.
ينطبق ذلك على الصغار، والكبار أيضًا في كثير من الأحيان، ما لم يكن هناك وعي حقيقي وضروري ولازم عند الأبوين، وعند كل من يتعرض لوسائل الإعلام، لكن الأمر أكبر من الإعلام وحده، كما قد تقول، لأن ما يحدث فاق الروايات الكابوسية، حتى إن بعض الكتاب والأدباء والقراء المخضرمين أيضًا صاروا باقتباسات من روايات يقولون أنها تنبأت بالأمر، كما أن نظرة سريعة على (التايم لاين) الخاص بكل منا، سترصد الكثير من الناس التي تتعامل مع الأمر بسخرية، أو بمتابعة تشبه متابعة مباريات كرة القدم وأفلام السينما، ووسط هؤلاء يوجد أبنائنا، وبعد أن ينقشع الغبار، وسينقشع حتمًا أيًا كانت النتائج والفواتير والمفاجآت في قوانين الحياة المدهشة والمستعصية – رغم كل شيء – على أي توقع، سيتبقى فقط جيل أبنائنا الذي حدث له (غرس ثقافي)، وزرع في (لا شعوره)، ووعيه الكامن والظاهر، كل ما يجعله يسخر من المثالي والقيم المطلقة، وقيم مثل العدل والسلام والحب، فماذا نفعل مع هؤلاء الذين بدأنا نسمعهم من الآن؟ لا أدعي أن هذه هي الإجابة النموذجية، لكنه اجتهاد وفق قراءات ومراجعات بحثية وآراء لمتخصصين في التربية وعلم نفس الأطفال والمراهقين، وبالتأكيد في تخصصي الإعلام ونظريات الاتصال.
(1 كن واعيًا: اقرأ، وابحث، وانشغل بالإجابة، وفكر بالتربية، أنت كبير بما يكفي لتعلم وتتعلم أن تعرض الأطفال لوسائل الإعلام يجب أن يكون مسئولًا ومناسبًا لشريحتهم العمرية، فهل أنت واع للأمر. كذلك هل أنت واع لما تتعرض له أنت شخصيًا بعيدًا عن انحيازاتك، وكونه الصحيح أم الخطأ من حيث دقة المعلومة، أم (الملون) من حيث الهدف والهوى؟ على الأقل، ابحث عن مصدر موثوق للمعلومات وجردها لحقائق واستبعد أي (هوى) في الأمر لتعرف ما يحدث في الأساس.
(2 استمع لأبنائك دون وصاية: دعهم يعبروا عن مشاعرهم كاملة دون سحب هذا (الحق) منهم. تدخل فقط لتصحيح المعلومات. تفهم هذه المشاعر ولا تسفه منها أو تسخر منها مهما كانت غريبة أو حتى متطرفة. دعهم يفرغوا الشحنة، واستمع لهم بإصغاء واحترام.
(3 تذكر – وذكّر أبنائك- أننا نتعلم ونربي ونتربى على قيم (العدل) و (السلام)، لأن العالم يحتاجها، وليس لأنها يجسدها. هذا هو دورنا: أن نسعى لتطبيق القيم – بقدر ما نستطيع – في حياتنا وعلى مستوى أسرتنا ومعارفنا، كما أن القيم المطلقة تتجسد – فقط – في المولى عز وجل، فسبحانه وحده هو العدل المتجرد، والسلام المطلق، وكلنا نسعى لتجسيد قيمه خاصة حين تغيب
(4 لا تكذب: مهما حدث لا تكذب عليهم. لا تقل لهم شيئًا غير حقيقي بخصوص الأحداث وتفسيرها بحجة حمايتهم، وهو ما يسميه التربويون (الصدق مع التوجيه). فدورنا ليس إخفاء الواقع القاسي عن أبنائنا، وإنما فلترة ما يحدث، وتنظيم تعرضه له وفق عمره، وتفسير ما يراه بقدر الحقيقة، وقيادة أنفسنا بالقيم التي نفتقدها لنعوض نقصًا حين يتجلى في دنوه يصنع حروبًا ويقتل فيه أبرياء.
(5 التركيز على المبادئ لا الأشخاص : الأشخاص يتغيرون، والتاريخ يتحول، لكن القيم تبقى. وهنا يمكن تقديم نماذج من التاريخ ومن القصص ومن نضال وكفاح شخصيات ملهمة
(6 الإشارة إلى الجانب الآخر: "ليه بيحصل كده في غزة؟ لأن فيه ناس ظالمة بتستخدم القوة غلط، لكن فيه ناس بتقاومهم، وناس تانية بتساعد المظلومين وبلدك منهم. إنت عايز تبقى مع مين؟
(7 تحويل الغضب لتعاطف: أتفهم غضبك يا حبيبي ويا حبيبتي ولكن ما رأيكم أن نساعد (المظلوم)؟ نتبرع له، نبعث له رسالة، نتحدث معه، نبحث عنه، بل وما رأيكم في أن نبحث عن المظلوم من حولنا ونساعده (هنا يمكن أن يكون بداية لتعليمهم المشاركة الإيجابية من خلال التطوع أو التبرع وغيرها من الأنشطة الخيرية).
(8 كن أنت القدوة: تخيل أنك تتحدث عن العدل مع أطفالك وأنت غير عادل معهم!! تتحدث عن السلام وأنت غضوب وعنيف في حياتك معهم أو أمامهم.
(9 تحدث معهم عن مصر: نعم. هي فرصة مهمة ليعرفوا أهمية البلد الذي ينتموا له، وكيف أنه بلد أمين، ويقف بجوار المظلوم، وهو شعور إنساني مترسخ في الإنسان المصري عبر التاريخ أيًا كانت ظروفه، وأيًا كان حاكمه. هي فرصة ليعرف عظمة مصر والمصريين بحق دون تهوين أو تهويل، ودون أن يأخذك هواك السياسي لنقد أو نفاق أشخاص.
(10 ثلاث لاءات مهمة: لا تعنفهم بوصفهم صغارًا. لا تشعرهم باليأس أو العجز. لا تربط القيم بالانتصار الفوري وتحول الأمر لأهلي وزمالك.
قد تكون هذه نقطة بداية حقيقية لمحاولات تربوية داخل الأسرة، لكن على الأب والأم دور أكبر يبدأ منهم، وباهتمامهم بأن يتعلموا : كيف يربوا؟ أو ما يعرف بالتربية الوالدية، فهل الأب والأم مستعدون للأمر؟ وهل هم واعون لأهمية غرس ثقافي مختلف يجب أن يسعوا إليه.
عمومًا إذا كانت هذه هي البداية فهناك نصائح مهمة عند تطبيقها:
أولها: تمييز الخطاب بناء على المرحلة العمرية: ما قبل السبع سنوات يميل الأطفال فيها للأبيض أو الأسود. ولا يجب أن يتعرضوا لنفس المواد التي يشاهدها الآباء، فأرجوكم كفوا عن (شحنهم) بمتلازمة العالم القاسي، وكلما كبر الطفل كلما زاد وعيه، لكن كلما تعرض لإعلام يقتصر على هذه الأخبار كلما زاد (شحنه) هو الآخر على المدى الطويل.
وثانيها: الاستعانة بالتاريخ، وبالقصص والكتب، والإشارة الذكية لهذه المصادر كمصادر وعي وفهم وإدراك للعالم من حولنا، ولكن، بحسب الشريحة العمرية.
وثالثها: علينا أن نتذكر أننا نربي أبنائنا ليكونوا أنفسهم لا ليكونوا نحن. ولذلك نحن نربيهم على تحليل الواقع، والقيم الأخلاقية، لا على وجهة نظرنا ولا على صورة غير حقيقية، ويرى (باولو فريري) أن الطفل يجب أن يدرك الواقع ويحلله، ولا ينعزل عنه، وبالتالي سيسعى للتغيير وليس الانهزامية، ومن أقوال فريري العظيمة: "التربية الحقيقية تجعل الإنسان يرى الظلم، فيقاومه، ولا يتعايش معه".
ورابعها: تذكروا أن التربية مشاركة كما تسميها الدكتورة ميرفت الديب. وأن التربية على الأخلاق لها نظريات تطور نحتاج لمعرفة أساسياتها، فكولبرج مثلًا يرى أن الطفل لا يتعلم القيم من خلال البيئة فقط، بل من خلال النماذج والمواقف التي يتم إدارتها تربويًا، وأن الطفل في مراحله المتقدمة يبدأ في إدراك أن العالم غير مثالي كما كان يظن، وكما كان ينظر له بعين الصغير وعين والديه، لكنه، ووفق ما تربى، سيختار القيم التي تربى عليها لأنها صوابه الداخلي وليس لأن العالم كذلك، وهكذا سيؤمن – تلقائيًا – بنفس ما (غرسه) فيه والداه من البداية، ونفس ما بدأنا به هذا المقال.
والواقع أنني لن أمل من تكرار أننا في حاجة ماسة إلى مشروع قومي للطفل، فالاستثمار في المستقبل يبدأ بالأطفال. وكل يوم يصبح الأمر ضرورة من ضرورات الأمن القومي، و "إذا أردنا أن نبلغ السلام الحقيقي في العالم فعلينا أن نبدأ بالأطفال"، و "منع النزاعات هو عمل السياسة، أما إقامة السلام الحقيقي فهي مهمة التربية" كما قالت ماريا مونتيسوري صاحبة المنهج الشهير. أبناء مصر يستحقون مشروعًا وطنيًا حقيقيًا للتربية.
وأخيرًا: لا يتعلم أبناؤنا العدل حين يكون العالم عادلًا، بل حين يرونه يحتاج إلى العدل، ويقاوم الظلم. كل الظلم.