تحل اليوم الثلاثاء الذكرى الـ102 لميلاد محمد حسنين هيكل، الكاتب الصحفي الأشهر، وربما الأهم في تاريخ الصحافة المصرية والعربية، ويمكننا القول دون مبالغة إنه واحد من أهم الصحفيين في تاريخ العالم.
ولد الجورنالجي في 23 سبتمبر 1923، ورحل عن عالمنا في 17 فبراير 2016، عن عمر ناهز 92 عامًا.
الزمن الأمريكي مستمر
تأتي ذكرى الأستاذ، والمنطقة تمر في لحظتنا الراهنة بمنعطفات شديدة الخطورة، ويبقى الاشتعال حقيقة من الممكن أن تتجلى أقرب من أي وقت مضى، والسير إلى حافة الهاوية أكثر منطقية من غيره، في ظل الأزمات التي تموج بها المنطقة.
بالنظر للوضع الحالي، وبالتدقيق في أحوال المنطقة، يكون المتابع متأكدا من أن أهم أسلحة إسرائيل هي الولايات المتحدة الأمريكية، فهي التي تدعم إسرائيل دعما غير مشروط، وهو تأكيد لجميع العالم أن الزمن الأمريكي ما زال مستمرًا بقوة.
هذا المشهد الراهن يجعل العودة لمحاولة قراءة هذا الزمن الأمريكي المستمر أمرا واجبا، وهنا، وفي ذكرى ميلاد هيكل، نعود لأحد أهم كتاباته عن هذا الزمن، وهو كتاب "الزمن الأمريكي.. من نيويورك إلى كابول"، الصادر عن دار الشروق.
"من نيويورك إلى كابول".. قراءة في لحظة مفصلية
كتب هيكل مضمون الكتاب على هيئة مقالات بين عامي 2001 و2002، قبل أن تُجمع بين دفتي كتاب، في وقت شديد الحساسية، مع بداية القرن الواحد والعشرين، واللحظة الملتهبة علاقتها شديدة الأهمية بالولايات المتحدة، وهي هجمات الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة.
يقسم هيكل الكتاب إلى خمسة فصول، بعناوين: «إعادة اكتشاف أمريكا»، «تقربر رئاسي أمريكي ـ خريف الخجر»، «حريق أمريكي وعالمي»، «من نيويورك إلى كابول وبالعكس! عن الأزمة والحرب»، و«دفاتر الأزمة».
وفي كل فصل، نقاط فرعية كثيرة، مفاتيح ومشاهد، إشارات وأوراق شارحة ومستفيضة، يتحدث فيها هيكل عن شق في الزمن الأمريكي.
في الكتاب، لا يكتفي الأستاذ بمجرد الاشتباك مع أحداث سبتمبر فقط، وإنما يعود إلى البداية تماما، وتحديدا إلى نشأة أمريكا نفسها، وكيف بدأت من أرض غير مكتشفة إلى أكبر إمبراطورية في زماننا.
أمريكا من الداخل: الرحلات والانطباعات
يتحدث هيكل عن رحلاته إلى الولايات المتحدة، التي وصلت إلى تسع وعشرين رحلة منذ عام 1951 وحتى عام 2001، وقت كتابة الكتاب.
يروي هيكل انطباعه الأول عن أمريكا، والذي لم يكن موضوعيا بسبب مؤثرات خارجية على رأيه، كما يتحدث عن رحلته إلى أمريكا بعد ثورة يوليو، عندما كانت الثورة تأمل في الحصول على الأسلحة، ولكن تلك الأماني قد تبخرت.
ومن خلال لقاءات هيكل، نرى الطمع الأمريكي في أن ترث الإمبراطوريات الكبرى التي احتلت الشرق الأوسط، وخاصة بريطانيا، وكيف أنها تريد إعادة تشكيل المنطقة على هواها.
أمريكا الإمبراطورية الجديدة
يعود هيكل لمحاولة تتبع كيفية نشوء الإمبراطورية الأمريكية، عبر مفاتيح ومشاهد يرصدها الجورنالجي، التي توضح بنية الدولة الأمريكية، والتي ما زالت مكونات النظام الأمريكي حتى الآن.
يتحدث هيكل عن الرأسمالية الأمريكية، وعن استفادة الأمريكيين من كون الولايات المتحدة بلدًا حديثًا بمعايير التاريخ، ما جعل أمريكا تتخفف من أعباء التاريخ.
ويروي أيضا فكرة نشوء أمريكا كشركة، وعن تأثير ذلك عليها حتى الآن؛ فهي بلد وليست وطن بالمفهوم المتعارف عليه. كما يسلط الضوء على كيفية استيطان الأراضي الأمريكية الجديدة في بادئ الأمر، وكيفية إبادة السكان الأصليين، والعبيد الذين سخّرهم المستوطنون الأوروبيون لخدمة مصالحهم.
إسرائيل أولا بالنسبة لأي رئيس.. والعرب على الهامش
يرصد هيكل بدايات دخول الرئيس جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض عام 2001، والتقرير الذي وضع أمامه فريقه الرئاسي، ومن أهم الملفات فيه : وضع منطقة الشرق الأوسط، القضية الفلسطينية، والعلاقة مع العرب وإسرائيل.
وتتضح العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، فإسرائيل الحليف الأمين والأول للولايات المتحدة، ومهما بلغت العلاقات مع العرب تبقى إسرائيل أولًا لا تمس.
كما يبرز المصطلح بفصل الخليج وبتروله عن العرب وقضيتهم، وخاصة فلسطين، في محاولة ظاهرة لتفريق العرب عن بعضهم، وهي محاولة نجحت إلى حد كبير.
11 سبتمبر.. هزة كبرى
يعرج هيكل بعد ذلك إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، من ضرب برجي التجارة العالميين، ضرب البنتاجون، ومحاولة استهداف البيت الأبيض.
يحلل بدقة وباستفاضة ما حدث في ذلك اليوم العصيب على الولايات المتحدة الأمريكية، وما جرى من تخبط في تعامل النظام الأمريكي، ويتحدث عن مصطلح "الحرب غير المتوازية"، التي تمثل الإرهاب في صورته المفاجئة.
ويوضح هيكل أنه لا يعتقد أن تنظيم القاعدة وزعيمه بلادن وحدهما وراء ما حدث، ويحاول بالتحليل العميق تتبع الفاعل الأصلي.
الوحش الذي صنعته أمريكا في أفغانستان
ينتقل هيكل لشرح رد الفعل الأمريكي على أحداث سبتمبر، ومفهوم محاربة الإرهاب والدول التي تؤويه، كما يوضح خيارات الولايات المتحدة للرد، ويقارنها بردود فعل دول كبرى في أزمنة سابقة.
يوثق هيكل لفكرة إنشاء التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، عبر رحلاته في أوروبا لمقابلة صناع القرار، ومحاولة الاطلاع على مواقف الدول الأوروبية في الرد على الأحداث.
يناقش أيضا مصطلح الإرهاب وأنواعه، وكيف ينشأ، وفي نهاية الكتاب يعرض ما أدى إلى ضرب أفغانستان، ووجود الإرهابيين فيها، والتي تحكمها طالبان، عبر العودة لبداية تصدر أفغانستان للمشهد في أواخر الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والشرقي.
ويوضح المصيدة التي نصبتها أمريكا للاتحاد السوفيتي، وكيف أوقعته في فخ التدخل العسكري المباشر في أفغانستان، بالتعاون مع السعودية وباكستان، ثم دعوة مصر للجهاد ضد الإلحاد.
وتوضح الأحداث أن تلك الحرب، بعد خروج الجيش السوفيتي المرهق، أدت إلى حروب أهلية، وبحر من الدماء، ومن ثم وصول طالبان إلى الحكم، وإيواء الجماعات المتطرفة وعلى رأسها تنظيم القاعدة وزعيمه بلادن.
خيوط اللعبة الأمريكية في الشرق الأوسط.. ونظرة هيكل الثاقبة
بهذه النظرة على ما كتب هيكل عن الزمن الأمريكي، يمكن القول إن النظام الأمريكي لم يتغير في نظرته لمنطقة الشرق الأوسط أو لحليفته الأولى إسرائيل، كما يمكن فهم كيف تحركت الولايات المتحدة خيوط اللعبة في المنطقة بما يخدم مصالحها فقط.
وفي ذكرى هيكل، يظهر بعد نظره واستشرافه لأحداث القرن الواحد والعشرين، من بقاء هذا القرن ربما قرنا أمريكيا بالكامل على الأقل حتى الآن، ما يجعل الجورنالجي ليس مجرد صحفي، بل محللا سياسيا كبيرا.