• قضية فلسطين محور أساسى فى كتاب الباحث البريطانى
استهل الكاتب البريطانى، جايسون بورك، كتابه الجديد بعنوان «الثوريون: حكاية المتطرفين الذين استولوا على سبعينيات القرن الماضى» بالإشارة إلى حركة اليسار المسلح ضد الإمبريالية التى بدأت خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، حيث لم يكن أحد يعرف على وجه الدقة ماذا يُطلق على أولئك الذين بدأوا فى حملة خطف الطائرات؛ فالبعض وصفهم بـ«خاطفى الطائرات»، وآخرون أطلقوا عليهم «قراصنة الجو»، لكن أيًا من الوصفين لم يدم طويلًا على أية حال.
وبحلول عام 1970، أصبحت تلك الشخصيات جزءًا من المشهد السياسى الغربى، حيث أشار «بورك» إلى أن سهولة خطف الطائرات فى تلك الفترة ساهمت فى انتشار تلك الظاهرة، إذ إن إجراءات الأمن الحديثة مثل التفتيش اليدوى أو أجهزة الكشف عن المعادن أو التفتيش الجسدى كانت مقترحات تُرفض باعتبارها مبالغًا فيها فى ذلك العصر.
ووصف الكاتب هذه الظاهرة بأنها تحولت إلى «كرنفال دموى» من الإرهاب العابر للحدود، بلغ ذروته فى عقد السبعينيات، حين أصبح الاستيلاء على الطائرات بالنسبة لبعض أبناء التيارات المناهضة للثقافة السائدة أشبه بمغامرة مثيرة.
وأوضح الكاتب أن اهتمامه بتاريخ العالم العربى وإيران فى الكتاب لم يأتِ عرضًا، بل لأن هذين الإقليمين شكّلا المسرح الأهم لتقاطع الحركات اليسارية مع حركات التحرر الوطنى فى النصف الثانى من القرن العشرين؛ فخلال تلك الفترة، توجّه العديد من عناصر التنظيمات اليسارية الأوروبية واليابانية إلى الشرق الأوسط، خصوصًا إلى الأردن ولبنان، حيث تلقّوا تدريبات عسكرية فى معسكرات تابعة للفصائل الفلسطينية المسلحة.
وقد رأى هؤلاء فى القضية الفلسطينية رمزًا عالميًا للنضال ضد الإمبريالية، بينما اعتبرهم الفلسطينيون بدورهم حلفاء فى معركة التحرر من النفوذ الغربى، وهكذا تشكّل تداخل معقد بين اليسار الثورى الغربى والمقاومة العربية، أسهم فى تحويل المنطقة إلى مركز للنشاط المسلح العابر للحدود.
أما فى إيران، فقد رصد «بورك» التحول الحاسم من الفكر اليسارى الماركسى إلى التيارات الإسلامية الثورية، موضحًا أن فشل القوى اليسارية التقليدية فى تحقيق أهدافها السياسية والاجتماعية أفسح المجال أمام صعود الإسلام السياسى، الذى وجد فى الثورة الإيرانية عام 1979 ذروته الأوضح؛ فبينما كانت حركات اليسار تؤمن بالتحرر الطبقى، نجح رجال الدين بقيادة «الخمينى» فى تعبئة الجماهير حول شعارات دينية ضد «التغريب» و«الهيمنة الغربية»، الأمر الذى مثّل، فى تحليل الكاتب، انتقالا من راديكالية اليسار إلى راديكالية الإسلام.
وتناول المؤلف أيضًا ظاهرة التنظيمات المسلحة فى سبعينيات القرن العشرين، من منظور يجمع بين السخرية والموضوعية. فهو، بوصفه مراسلًا مختصًا فى الشئون الأمنية الدولية بصحيفة «الجارديان»، لم يقدم أفراد تلك الحركات بوصفهم مناضلين أصحاب عقيدة صلبة، بل صورهم كأشخاص متناقضين وغريبى الأطوار، تهيمن على تصرفاتهم نزعة عبثية تفوق انضباطهم الأيديولوجى.
واستشهد عبر الكتاب - الذى ترشح فى القائمة القصيرة لجائزة «بيلى جيفورد» البريطانية لهذا العام - بعدد من الأمثلة التى تكشف هذا الجانب الغريب فى شخصياتهم؛ من بينها الإرهابى اليابانى، كوزو أوكاموتو، أحد عناصر «الجيش الأحمر اليابانى» الذى شارك فى هجوم مطار اللد بإسرائيل عام 1972، والذى كان مولعًا بأزهار الكرز وبمبيد الحشرات «دى. دى. تى». هذا التناقض بين سلوكه الدموى واهتماماته الطفولية كشف، فى رأى الكاتب، عن هشاشة الصورة الثورية التى حاول هذا الجيل أن يصنعها لنفسه.
كما أورد مثالًا آخر من الجيش الأحمر الألمانى، حيث أشار إلى أن بعض عضوات الفصيل ممن قدمن إلى الأردن فى السبعينيات لتلقى التدريب العسكرى مع الفصائل الفلسطينية، جمعن بين إيمانهن بالمادية الجدلية وبين ممارسة عادات غربية متحرّرة كالتشمّس عاريات الصدر، الأمر الذى أثار حرج واستغراب مضيفيهن الفلسطينيين المحافظين. ومن خلال هذه المفارقة، أبرز «بورك» مدى التناقض الثقافى والفكرى داخل تلك الجماعات التى رفعت شعارات التضامن مع العالم الثالث، بينما كانت بعيدة عن فهم بيئته أو احترام تقاليده.
ثم انتقل الكاتب إلى الكشف عن الجانب الأكثر قتامة فى خلفية هذه الحركات، موضحًا أن الخطاب اليسارى الثورى لم يكن دائمًا نزيهًا تجاه المرأة، بل حمل فى طياته قدرًا من التمييز والاستغلال، ونقل فى هذا السياق قول أحد أعضاء «الكومونة اليسارية» فى برلين إن النساء يشبهن الخيول: «أحدهم يجب أن يروضها أولًا، ثم تصير متاحة للجميع». واستدل «بورك» بهذا التصريح على أن فكرة التحرر داخل تلك الجماعات لم تكن تشمل المساواة الحقيقية بين الجنسين، بل كانت غطاءً لتبرير ممارسات ذكورية عنيفة ومهينة.
وقال «بورك» إن ما حدث لم يكن «أسلمة للراديكالية» بقدر ما كان «راديكالية للإسلام»، موضحًا أن الخوف الذى بثّته الثورات الشيوعية فى فيتنام وكمبوديا وإثيوبيا والسودان فى الأنظمة العربية جعل ما أسماه «الشيوعية الصحراوية» يُجهض قبل أن يبدأ. وفى المقابل، أشار إلى أن بعض الزعماء العرب، مثل معمر القذافى وصدام حسين، دعموا الإسلام السياسى كقوة موازنة للاشتراكية، وموّلوا جماعات الإسلام الجهادى.
وبيّن الكاتب أن قضية فلسطين تظل محورًا أساسيًا فى هذا العمل، إذ يرى أن الغضب من النكبة والاحتلال والدعم الغربى لإسرائيل كان المحرك الرئيسى للموجة الثورية فى تلك الفترة. لكنه أشار إلى أن محاولات تدويل الصراع جاءت بنتائج عكسية؛ حيث أدت عمليات خطف الطائرات إلى تآكل التعاطف العربى، وانتهت بطرد الفلسطينيين من الأردن عام 1970.