حين تموت الحِرَف بصمت.. خياط الكرات الذي يُنعش نبض الصنعة - بوابة الشروق
السبت 28 يونيو 2025 6:50 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

حين تموت الحِرَف بصمت.. خياط الكرات الذي يُنعش نبض الصنعة

أسامة زكريا
نشر في: السبت 28 يونيو 2025 - 3:13 م | آخر تحديث: السبت 28 يونيو 2025 - 3:13 م

بعض المهن لا نختارها، بل تختارنا. وهكذا، وجد مصطفى نفسه طفلا في ورشة والده بمنطقة الدرب الأحمر في أواخر الستينيات، يتعلّم كيف تُخاط كرة القدم بخيطٍ وإبرة، ومنذ ذلك اليوم، لم يفارقها أبدًا.

مرّت السنوات، وتغيّر كل شيء حوله؛ المهنة تقلّصت، الأسعار ارتفعت، والزبائن تراجعوا. وحده ظل كما هو، لا لأنه لم يجد غيرها، بل لأنه آمن بما علّمه والده له ذات يوم: "الصنعة وفاء، مش شغلانة والسلام".

عند طرف زقاق لا يحمل اسمًا، في إحدى حواري باب الخلق، وقبل أن تبدأ ضوضاء ورش الموبيليا، وتفوح رائحة الخبز الساخن من الفرن البلدي، يجلس عم مصطفى، السبعيني، على كرسي خشبي، يمرّر الإبرة بين جلود ممزقة. لا يرفع لافتة، ولا يعلن عن نفسه. هو فقط هنا. يرقّع الكرات، ويُرمم ما لم يعد أحد يهتم بترميمه.

- ورشة الوالد.. البداية من الخيط الأول

ولد مصطفى عام 1955، لكنه يقول دائمًا إن عمره الحقيقي بدأ عام 1968، حين دخل ورشة والده. هناك، تعلّم كيف تُخاط الكرة، لا كصنعة فقط، بل كفنٍ له طقوسه، وحساسيته فيسرد لـ"الشروق": "كنت أسمع صوت الإبرة وهي بتدخل وتطلع من الجلد مع دقات قلب أبويا"، يقول عم مصطفى وهو يُمرر أصابعه على الإبرة التي يحتفظ بها منذ سنوات، كما لو كان يتحسس عمرًا مضى.

والده، الحاج محمد، كان من أشهر مصلحي الكرات في الدرب الأحمر، يتردد عليه نجوم الكرة في زمنها الجميل، وعلى رأسهم الكابتن أحمد مكاوي، أحد رموز النادي الأهلي في الخمسينيات: "كان بيجي ياخد من عندنا كور يتدرب بيها، أيام ما كانت الكورة لعبة مش بيزنس".

- رحيل الأب واستمرار الرحلة

عام 1973، انتقل مع والده إلى ورشة جديدة في منطقة باب الخلق. وبعد خمس سنوات، توفي الأب، فاستقر مصطفى في المحل الصغير وحده: "أنا كملت عشان أبويا مش عشان الفلوس. هو اللي علّمني وأدّاني المفاتيح.. حرام أقفل المحل وهو كان سايبه مفتوح".

- خياطة في زمن المستورد

داخل ورشة عم مصطفى، الزمن يمشي ببطء. رفوف خشبية مائلة، كرات فقدت ألوانها، خيوط مشدودة، ورائحة ممزوجة بالجلد والعَرق والتراب. يلتقط كرة مهترئة وينقر عليها بإصبعه: "أنا أعرف الكورة من شكلها.. أعرف هتعيش أسبوع ولا سنة ولا أكتر من كده".

بيديه، يفك الجلد بعناية حتى لا يقطع البطانة، ويبدأ في الخياطة بخيط متين يحافظ على الكرة لأطول وقت ممكن: "دي صنعة محتاجة صبر، وإيد تعرف تمسك الإبرة من غير ما تغرزها في القلب"، يقولها مبتسما.

يوضح عم مصطفى أنه لا يُصلح كل الكرات؛ فهو يختار منها ما صُنع من جلدٍ يتحمّل اللعب والخياطة: "مش الكور الصينية اللي شكلها من بره شبه الجلد، لكن من جوه فاضية، وأول ما تتخرم تترمي".

يتنهد وهو يتذكر أيامًا لم تعد، حين كانت الورشة تعج بالحياة، وطوابير الأطفال والشباب تمتد أمام الباب في انتظار دورهم: "كنت أول ما أوصل ألاقيهم قاعدين على الرصيف مستنيين.. كل واحد شايل كورة ومستعجلني: أنا حاجز الأول!".

غير أن تلك الأيام لم تدم طويلا. مع انتشار الكرات الرخيصة المستوردة؛ فتراجعت المهنة، وقلّت الورش التي تُصلح الكرات الجلدية، فيقول عم مصطفى بأسف: "السوق اتملّى كُور أي كلام.. وأرخص من تمن تصليح الكورة الجلد".

وبينما كان عم مصطفى يتحدث عن الأيام التي قلّ فيها العمل، اقترب أب من باب الورشة وهو يحمل كرة، ويتبعه طفل يقفز في مكانه من الفرح، وقال بابتسامة واسعة: "ألف شكر يا راجل يا طيب، الواد مش مصدق إنها نفس الكورة.. كانت عايزة معجزة"؛ توقّف عم مصطفى عن الحديث مع "الشروق" لحظة، وتطلّع إلى الطفل، ثم قال بهدوء: "فرحته دي عندي بالدنيا.. ربنا يسعدك بيه".

- مهنة لا تورّث

في التسعينيات، حين بلغت المهنة ذروتها، وعم مصطفى في أوج خبرته، كان مشهد الورش التي ترمّم الكرات مألوفًا في شوارع السيدة زينب، وباب الشعرية، والدرب الأحمر.

الزبائن يصطفون حاملين كرات جلدية حقيقية، وعم مصطفى يستقبلهم بابتسامة العارف بقيمة مهنته: "اللي معاه كورة كان بيحافظ عليها زي عينه، ولما يحصلها حاجة، بيجري عليّا كأني دكتورها".

لكن الزمن دار، والمشهد تغيّر. لم تعد الكرة شيئًا يُرمَّم ويُصان، بل سلعة تُستبدل فورًا، مع انتشار الكرات المستوردة الرخيصة – التي لا يتجاوز سعر الواحدة منها 50 جنيهًا – فتراجعت الحاجة إلى التصليح، وفي المقابل، ارتفع سعر الكرات الجلدية الجيدة ليتراوح ما بين 600 إلى 1000 جنيه، ما جعلها بعيدة عن متناول كثيرين.

فيقول عم مصطفى: "الزبون يقولك أشتري كورة رخيصة جديدة، ولما يحصل فيها حاجة أجيب غيرها. هو أنا لسه هصلح؟!".

يشرح عم مصطفى الفارق الذي لا ينتبه له كثيرون: "الكورة الجلد معمولة من طبقات جلد متين، وتحتها بطانة من القماش أو المطاط، تعيش معاك 10 سنوات وماتقولش لأ. إنما الصيني مصنوعة من بلاستيك خفيف، مش هتتحمل اللعب. الشباب لما يحبوا يطولوا عمرها شوية، بيروحوا حاطين جواها كورة بلاستيك".

ولم يتوقف الضغط عند هذا الحد؛ فارتفاع الدولار طال كل أدوات المهنة: من الخيوط المتخصصة، إلى المواد اللاصقة، وحتى المطاط المستورد. جميعها تضاعف سعره، حتى أصبحت تكلفة التصليح تفوق ثمن كرة صينية رخيصة.

لكن المشكلة لم تكن في الأسعار وحدها، بل في تحوّل أعمق في نظرة الناس إلى الأشياء: من ترميمها إلى استبدالها، فبحسب منصة "Statista "، وهي إحدى أكبر قواعد البيانات المتخصصة في مؤشرات السوق والتحليلات الاقتصادية، بلغ حجم سوق المعدات الرياضية في مصر أكثر من 1.5 مليار يورو (نحو 85 مليار جنيه) في عام 2024، مع توقّعات بنمو سنوي يقارب 10% حتى عام 2028.

ومع أن نحو 91% من هذا السوق لا يزال يُدار عبر البيع المباشر – بحسب بيانات eCommerceDB، المنصة التابعة لـStatista والمتخصصة في تحليل اتجاهات التجارة الإلكترونية – فإن الورش الصغيرة بقيت خارج الصورة.

ببساطة، ظل السوق يتحرك، لكن بوصلته لم تعد تشير إلى الورش. فالشراء مستمر، لكن الكرات اختلفت: رخيصة، سريعة التلف، لا تُرمم بل تُستبدل.

وبين كرة وأخرى تُلقى دون إصلاح، كانت المهنة تنسحب بصمت من المشهد، تاركة عم مصطفى – بمهارته وأدواته – على الهامش.

هذا التحول في سلوك الزبائن دفع معظم الورش القديمة إلى الإغلاق. الورش التي كانت تملأ الأزقة، تلاشت واحدة تلو الأخرى: "كنا فوق الأربعين ورشة في الحتة.. دلوقتي أنا تقريبًا آخر واحد باقي".

ورغم كل ما تغيّر، ظل متمسكا بمهنته. لكنه أدرك مبكرًا أن أبناءه لا يجب أن يرثوها. علّمهم، وتركهم يشقّون طريقًا مختلفًا، أكثر أمانًا: "مكنش ينفع أسيبهم في شغل ميعرفوش يعيلوا بيه نفسهم".

- التكريم الذي لم يتوقّعه

في أحد أيام شهر أغسطس 2022، وبينما كان عم مصطفى يجلس على كرسيه الخشبي المعتاد، يمسك كرة ممزقة بين يديه، ويحرك الإبرة بخفة معتادة، فوجئ بسيارة فارهة تتوقف أمام الزقاق. لم يعرها اهتمامًا في البداية، إلى أن ترجل منها رجل أنيق، يرتدي جلبابًا نظيفًا، ويتجه مباشرة نحو الورشة: "دخل عليا راجل خليجي.. بيبص حوالين المكان كأنه مش مصدق إن دي الورشة اللي شافها على الموبايل"، يقولها عم مصطفى بابتسامة لم تفارقه وهو يحكي.

الزائر لم يكن سائحًا عابرًا، بل جاء من الإمارات بعدما شاهد مقطعًا قصيرًا على "تيك توك" يُظهر عم مصطفى وهو يُصلح إحدى الكرات. جذبه المشهد، فقرر أن يراه بعينه: "قالي أنا شفتك على الإنترنت، وجيت لك مخصوص". التقط معه صورًا، وقدّم له هدية رمزية.

لم تكن الكلمات وحدها ما أثّرت في عم مصطفى، بل المفاجأة نفسها، أن أحدًا من خلف شاشة قرر أن يقطع كل هذه المسافة فقط ليراه، يقول ضاحكا: "أنا ماعرفش تيك توك، ولا عمري فتحت فيديو، بس اللي أعرفه إن ربنا بيرزق الإنسان من حيث لا يحتسب. الزيارة دي ما غيّرتش حياتي، بس ريّحت قلبي. خلتني أحس إني لسه نافع، ولسه في ناس بتقدّر التعب".

وفي المساء، حين يفرغ عم مصطفى من خياطة آخر كرة، يطوي أدواته بهدوء، ويُطفئ المصباح الوحيد المتدلّي من السقف،يسحب باب الورشة المعدني ببطء.

الزقاق يخلو من الحركة الآن، ورائحة الجلد تظل عالقة في الهواء. لا يحمل الرجل إلى بيته مالًا وفيرًا، لكنه يحمل ما هو أثمن. شعور بأن لصنعته معنى: "كتير قالوا لي كفاية عليك السنين دي، وريح. بس لما بشوف طفل جاي بكورة مخرومة، ومتعشم فيّا أرجّعها له زي الأول، أقول: لسه ليها عازة".



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك