سيد إمام.. في وداع مثقف أصيل - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 4:45 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سيد إمام.. في وداع مثقف أصيل

نشر فى : السبت 1 أبريل 2023 - 9:20 م | آخر تحديث : السبت 1 أبريل 2023 - 9:20 م

ــ 1 ــ
كان من المقرر أن أكمل ما بدأته من حديث عن ريادة الدكتورة سهير القلماوى وتدشينها لمسار الدرس المنهجى لنصوص أدبنا الشعبى ثم جهودها التنظيرية والتطبيقية فى النقد الأدبى الحديث وتياراته. لكن جاء رحيل المثقف والمترجم الكبير والقدير سيد إمام (وهو والد الكاتب والروائى المعروف الصديق طارق إمام) ليخيم على الحركة الثقافية فى مصر والعالم العربى بغيومٍ كثيفة من الحزن والأسى والإحساس المتعاظم بغياب قيمة معرفية كبيرة وأصيلة، والذى رحل عنا الأسبوع الماضى عن 78 عاما، تاركا سيرة ثقافية مشرفة، وإرثا من المعرفة الأصيلة، وأعمالا مرجعية مهمة ستبقى من بعده لينهل منها أجيال وأجيال.

يمثل ما أنجزه السيد إمام وحده من ترجماتٍ جهد مؤسسة بأكملها، يذكرنى بدأب وإخلاص المترجم العظيم عبدالعزيز توفيق جاويد، وعينه النافذة فى اختيار العناوين المهمة ذات القيمة وذات الاعتبار.

لأكثر من خمسين سنة عمل سيد إمام، مثل جاويد بالضبط، فى صمت وتبتل وزهد، يعلِّم اللغة الإنجليزية للأجيال الناشئة، ويترجم عنها ما يقرب من الخمسين كتابا (وربما أكثر من هذا الرقم) فى حقول معرفية ثقافية متباينة ومتداخلة، وتصدى لترجمة نصوص غاية فى الصعوبة فى حقل الدراسات النقدية الحداثية لا يتصدى لها إلا مثقف واسع الاطلاع والتكوين ولو لم يترجم سوى موسوعة «ألف ليلة وليلة» التى صدرت فى مجلدين كبيرين عن المركز القومى للترجمة قبل سنوات لكفاه ذلك.

ــ 2 ــ
طوال العقود التى أمضاها يمارس القراءة والترجمة، كان سيد إمام أحد الآباء المبشرين بتيارات الحداثة النقدية والمعرفية والثقافية وما بعدها؛ ولم يكن غريبا أن يكون هو الجسر الأبرز الذى عرفنا بإسهامات الناقد والمنظر مصرى الأصل أمريكى الإقامة والجنسية، إيهاب حسن، أحد أبرز أعلام تيارات نقد ما بعد الحداثة، والذى يعد رائدا فيه على مستوى النقد الأدبى، بشقيه النظرى والتطبيقى، ولذلك لا يُذكر إيهاب حسن فى تاريخ النقد الأدبى الأمريكى المعاصر إلا بوصفه واحدا من رواد ما بعد الحداثة، وقد أصدر تحت مظلتها العديد من الكتب التى تجسد توجهه الفكرى.

وقد تصدى سيد إمام ــ رحمه الله ــ لترجمة أهم وأبرز نصوص إيهاب حسن إلى العربية (ما يقرب من العشرة كتب) ؛ ومنها «تحولات الخطاب النقدى لما بعد الحداثة»، و«النقد النظير ـ سبعة تأملات فى العصر»، و«أوديب أو تطور ما بعد الحداثة ـ حوارات ودراسات» و«تقطيع أوصال أورفيوس ـ نحو أدب ما بعد حداثى»، وكان آخر ما أعلن عن صدوره من ترجمات لإيهاب حسن كتاب «براءة جذرية ـ دراسات فى الرواية الأمريكية المعاصرة».

ــ 3 ــ
وكان سيد إمام يعى تماما بأن نصوص هذا الرجل كانت تمثل انقلابا فكريّا ونقديّا وبشكل جذرى على كل المفاهيم والتصورات التى ورثناها ــ فى نقدنا العربى ــ عن النقد الفرنسى، كما كان يعى أيضا جذرية مناقضته لإدوارد سعيد على سبيل المثال، ومن هو فى حركة النقد المعاصر، ولولا هذه النصوص التى ترجمها سيد إمام لإيهاب حسن ما أدركنا هذا التناقض وهذا التضاد الجذرى بين الناقدين.

وأظن أن اختيار سيد إمام لترجمة نصوص إيهاب حسن تتسق تماما وخياراته فى الحياة والفكر؛ كان جريئا صريحا مقاوما بكل شجاعة وجسارة للجمود والفكر المتزمت والانغلاق والاتباع والهيمنة بكل صورها وأشكالها؛ كان متمردا على كل الأنساق المغلقة والأحادية فى الفكر والرأى والسياسة والثقافة.

يكتب عن ترجمته لكتاب «نار بروميثيوس ـ الخيال العلم التغير الثقافى» لإيهاب حسن: «يطرح الكتاب مجددا قضية التصنيف: سيرة ذاتية؟ رواية ما بعد حداثية؟ نقد أدبى؟ كتاب فى العلوم؟ تاريخ؟ صدمة معرفية بكل مقياس، يزعزع يقينياتنا الجاهزة حول التقسيمات الأدبية، وقضية النوع، كتاب غير مريح، تتولد متعته من تنوع موضوعاته، وطريقة طباعته، وتنظيمه وترتيب فقراته، وقدرته على المغامرة وكسر المألوف، سوف تتراوح طريقة استقباله وتلقيه بين السخط الشديد، والإعجاب المنقطع النظير. إنه كتاب للمجانين، وللقارئ الاعتيادى أن ينصرف إلى كتب النثر المنمق والأساليب المطروقة فى الإنشاء والتعبير».

ــ 4 ــ
وقد نقل أيضا سيرته الذاتية الصادمة والمختلفة «الخروج من مصر ـ مشاهد ومجادلات من سيرة ذاتية» التى أثارت منذ ترجمتها نقاشا وجدالا شغل المثقفين المصريين والعرب لفترة طويلة؛ فقد تميز هذا النص المكثف المكتوب بالإنجليزية فى صورته الأولى بتناوله لتجربة الهجرة والانضمام إلى صفوف الأقلية العربية بالولايات المتحدة الأمريكية، متخذا موقفا نقديا صارما من مفهوم «الذات» وتأمل تجربة وأسلوب التأقلم فى المجتمع الجديد.

فى ترجمة هذه السيرة الموجزة (200 صفحة من القطع الصغير) التى أنجزها باقتدار سيد إمام، سنرى كيف يحاول صاحبها طول الوقت أن ينقسم وعيه على ذاته، يعيد القراءة، يُطيل التأمل، يشتبك بعنف، ثم يلقى بقنابله التأويلية فى وجوهنا! وأتصور أنه لولا براعة ترجمة سيد إمام، وتعمقه وتغلغله النافذ فى فكر وتصورات إيهاب حسن، وتمثُّله لنقده وتمرُّسه بنصوصه ما استطاع أن يقدم لنا هذه السيرة الخاصة جدا التى تعيد تأمل الكتابة فى السيرة والتاريخ بشكل جذرى.

فصاحبها لا يقدم «سيرة ذاتية» بالمعنى المألوف، إنما هو أقرب إلى أن يقدم ممارسة «تفكيك» من نوع خاص لبعض محطات وأحداث هذه السيرة؛ كى يستكشف ويعيد أيضا طرح وقائع وأحداث وشخوص فى «حياته/ سيرته الذاتية»، لكن فى سياق شبكة معقدة للغاية من التأويل والتأويل المضاد، إذا جاز التعبير!

ــ 5 ــ
كنت أشرف بصداقته ومودته، ولم ينقطع بيننا الاتصال طوال السنوات العشر وبالأخص على صفحات «السوشيال ميديا» منذ التحق بها، أقرأ كل ما يكتبه باهتمامٍ حقيقى، وكان يتابع ما أكتب باهتمام مماثل وتقدير كان يغمرنى به من آن لآخر..

رحم الله مثقفنا الأصيل ومترجمنا الكبير، وخالص العزاء والمواساة للصديق الكاتب والروائى طارق إمام.