عندما انتُخب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، كان معسكر اليمين فى إسرائيل فى نشوة، إذ استُجيبت صلاتهم؛ فترامب سيمنح إسرائيل شيكا على بياض لتفعل ما يحلو لها ـــــ فرْض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وهزيمة أعدائها من دون أى قيود. ومع ذلك، فإن الإدارة الأمريكية لم تتصرف خلال الأشهر الأربعة التى تلت دخول ترامب البيت الأبيض بما يتماشى مع توقعات اليمين.
وللإنصاف، يجب قول إن هذه التوقعات كانت دوما منفصلة عن الواقع؛ فرغبة ترامب فى توسيع اتفاقات إبراهام تتعارض جوهريا مع رغبة إسرائيل فى ضم الضفة الغربية، لأن هذه الخطوة تُعتبر بالنسبة إلى السعوديين «خطا أحمر» يمنع التطبيع. وبالمثل، فإن رغبة ترامب فى التوصل إلى اتفاق نووى مع طهران تعنى أن إسرائيل لن تحظى بدعم تلقائى إذا قررت مهاجمة البرنامج النووى الإيرانى. طبعاً، إذا فشلت الدبلوماسية، فربما يدعم الرئيس استخدام القوة من جانب إسرائيل، لكنه أوضح مرارا أنه يريد أن تنجح الدبلوماسية لتجنُّب المواجهة. ولذلك، فإنه مازالت القنوات الدبلوماسية لا تزال فاعلة، فإن ترامب سيعارض أى عمل عسكرى إسرائيلى.
وفى هذا السياق، يجدر التذكير بما كشفته مصادر أمريكية الأسبوع قبل الماضى من معلومات استخباراتية جديدة تشير إلى أن إسرائيل تستعد لإمكان مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. من الواضح أن هذه المصادر لم «تسرّب» هذه المعلومات لتسهيل أو تشجيع هجوم كهذا، إنما بالعكس تماما؛ فإذا كانت إسرائيل تنوى التحرك، فمن المنطقى أنها ستسعى لمنع الإيرانيين من الاستعداد مسبقا، لتعظيم عنصر المفاجأة وضمان عدم تنقُّل أجهزة الطرد المركزى إلى أماكن أُخرى أو إخفائها.
ومن الممكن أن يكون التسريب يهدف إلى زيادة الضغط الأمريكى فى المفاوضات مع الإيرانيين، وبعْث رسالة فحواها أنه يجب التوصل إلى اتفاق، وإلاّ فإن الإسرائيليين سيتصرفون. فى أى حال، لم يكن القصد من التسريب تعزيز إمكان قيام إسرائيل بهجوم فى المستقبل القريب.
• • •
ومع ذلك، فإن كل هذا لا يعنى أن إدارة ترامب لا تدعم إسرائيل، أو أنها تتخلى عنها، لكنه يعنى أن الفكرة التى فحواها أن ترامب سيدعم كل ما تقوم به الحكومة اليمينية المسيانية الحالية فى إسرائيل هى مجرد وهم.
كل من لا يزال فى شك إزاء ذلك مدعو إلى فحْص سلسلة الخطوات التى اتخذها ترامب أو صادق عليها مؤخراً: أولاً، تفاوض فريقه مباشرة مع «حماس» بشأن إطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار الممكن، وهو أمر لم تفعله أى إدارة أميركية من قبل، ومن دون تبليغ إسرائيل. وحتى لو تم التوصل إلى الاتفاق الأخير بطريقة غير مباشرة، فإنه كان يخص فقط عيدان ألكساندر، الرهينة الذى يحمل الجنسية الأمريكية ــــــ الإسرائيلية. ولم يشمل الاتفاق رهائن آخرين، لكنه تضمّن التزاما أمريكا بإعادة إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة. بعد ذلك، اتخذ ترامب قرارا بالتفاوض المباشر مع الإيرانيين، لكنه كشف عن القرار قبل أيام قليلة من بدء المحادثات، فى وقت كان فيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو جالسا فى المكتب البيضاوى، واضطر إلى ضبط ردة فعله. أمّا الخطوة الثالثة، فكانت اتفاق وقف إطلاق النار مع الحوثيين، والذى لم يشمل إسرائيل، وجاء بعد يومين فقط من سقوط صاروخ حوثى قرب مطار بن جوريون، وقد تم تبليغ إسرائيل بالاتفاق فقط بعد إتمامه (وفى الواقع، ازداد عدد الصواريخ الحوثية على إسرائيل منذ وقف إطلاق النار الأمريكى). وكانت الخطوة الرابعة إلغاء العقوبات الأميركية على سوريا، مجددا، من دون إعلام إسرائيل مسبقا، على الرغم من مخاوفها الأمنية الجدية.
من الممكن أن تكون كل هذه القرارات مبرَرة، والسؤال ليس إذا ما كانت صائبة أم مشروعة، إنما المشكلة هى أنه يبدو أن المخاوف أو الاعتبارات الإسرائيلية لم تُؤخذ فى الحسبان، وكثيرون فى إسرائيل رأوا فى هذه التحركات، وخصوصا فى حقيقة أن إسرائيل لم تكن جزءا من زيارة ترامب إلى المنطقة، مؤشرا على أن إسرائيل إمّا لم تُعد ذات صلة فى نظر الإدارة الأمريكية، وإمّا أن هناك أزمة فى العلاقات بين البلدين.
إن التقارير التى تفيد بأن مسئولين فى الإدارة قالوا إن ترامب «محبَط» من نتنياهو ويريد إنهاء الحرب فى غزة تعزز ادعاءات أن ترامب يبتعد عن إسرائيل أو سئم منها. كذلك، فإن صمْت البيت الأبيض إزاء البيان المشترك الصادر عن فرنسا وكندا وبريطانيا، الذى دان أفعال إسرائيل فى غزة وحذّر من اتخاذ "خطوات ملموسة إضافية" إذا لم تتوقف العملية العسكرية، أثار دهشة كبيرة.
• • •
إذن، هل يبتعد ترامب عن إسرائيل، أو على الأقل عن حكومة نتنياهو؟ السؤال يبدو منطقيا فى ضوء خطوات الإدارة الأخيرة، لكننى أعتقد أن هناك تفسيراً آخر: ترامب يتخذ قراراته بناءً على ما يراه يخدم مصلحة الولايات المتحدة.
بصورة عامة، يركّز ترامب على أمريكا وليس على مخاوف حلفائها أو مصالحهم التى يعتبرها ثانوية؛ فالتفاوض مع «حماس» وإيران، والتوصل إلى وقف إطلاق نار مع الحوثيين، كلها خطوات تخدم المصلحة الأمريكية من وجهة نظره، وهذه هى اعتبارات ترامب، وليس ما يهم الإسرائيليين أو البريطانيين الذين شاركوا فى الهجمات ضد الحوثيين وفوجئوا أيضاً بقرار وقف إطلاق النار.
ربما لا تكون هذه الاستنتاجات مطمئنة للإسرائيليين، لكنها توضح أن فهم الطريقة التى يُعرّف بها ترامب مصالح الولايات المتحدة أمر بالغ الأهمية. لذلك، فإنه إذا أرادت الحكومة الإسرائيلية أن تضع مصالحها على جدول أعمال ترامب، فعليها أن تُظهر كيف أن ما تقوم به يخدم المصالح الأمريكية.
فى الحقيقة، إسرائيل، وليس الولايات المتحدة، هى مَن غيّر ميزان القوى فى المنطقة، وهى التى أضعفت إيران وأذرعها (حزب الله و«حماس»)، وزادت من حاجة إيران إلى التوصل إلى اتفاق، وكل ذلك يخدم المصلحة الأمريكية.
ومِن الأخبار الجيدة للإسرائيليين أن ترامب يريد ضمان عدم حصول إيران على سلاح نووى، وألاّ تشكّل تهديداً للمنطقة، ولا شىء أكثر أهمية بالنسبة إلى إسرائيل من ذلك. هذا بالإضافة إلى أن ترامب يؤمن بضرورة إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين، ويعارض سيطرة «حماس» على غزة. ومن الأمور الإيجابية أيضا أن ترامب واصل الموافقة على تزويد إسرائيل بالسلاح، ولم يجمّد هذه الإمدادات.
أمّا الأخبار الأقل إيجابية بالنسبة إلى حكومة نتنياهو، فتتمثل فى أن ترامب يريد إنهاء الحرب ووقف القتال من أجل تحقيق التطبيع مع السعودية. وعدم امتلاك حكومة نتنياهو خطة موثوقة لـ«اليوم التالى» فى غزة تتضمن بديلاً لـ«حماس» يمثل مشكلة خطِرة. ومن غير الواضح إن كان الائتلاف الحالى لحكومة نتنياهو، مع وجود الوزير إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، قادرا على تنفيذ خطة كهذه.
• • •
الصبر ليس من صفات ترامب البارزة، وفى أى لحظة يمكن أن يقرر، فى حال فشل إنهاء الحرب فى غزة ومعه أيضا فشل إمكان التطبيع مع السعودية، أن يحوّل انتباهه إلى منطقة أُخرى، كما يبدو أنه يفعل الآن بشأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وهذا لا يعنى أن ترامب سيتوقف عن دعم إسرائيل، فدعمه السياسى لإسرائيل عبر خطوات رمزية كبيرة، كما فعل فى ولايته الأولى (نقْل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان)، يعكس موقفه الأساسى، لكن تحمُّل التكاليف شىء آخر.
إن مذكرة التفاهم التى أصدرتها إدارة أوباما لمدة عشرة أعوام، والتى تنص على أن الولايات المتحدة ستمنح إسرائيل مساعدات عسكرية بقيمة نحو 4 مليارات دولار سنويا، ستنتهى خلال ولاية ترامب الحالية. فهل سيُفتح التفاوض بشأن اتفاقية جديدة لمدة عشرة أعوام أُخرى؟
ربما تدمير حزب الله على يد إسرائيل، وانهيار نظام الأسد فى سوريا نتيجة ذلك، وكذلك تدمير أنظمة الدفاع الجوى الإيرانية، يفتح فرصاً جديدة للعمل فى المنطقة. لكن لا تخطئوا: الحرب المتعددة الجبهات التى تخوضها إسرائيل منذ هجوم «حماس» فى 7 أكتوبر تكلف كثيرا، ليس فقط دماء، بل أيضا على صعيد الموارد الاقتصادية والقدرات والحاجات العسكرية البعيدة المدى، وتلبية هذه الحاجات يجعل الحصول على اتفاقية مساعدات أمريكية جديدة لعشرة أعوام أمراً بالغ الأهمية. وسيكون الاختبار الكبير للعلاقة بين ترامب وإسرائيل، وحكومة نتنياهو، هو الطريقة التى سيتعامل بها مع هذه الاتفاقية، وهذا ليس أمرا مضمونا.
دنيس روس
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية