نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى بيانا احتفاليا جاء فيه: «التقت الكتائب القتالية 188 وغولانى، وأكملت فتح محور «مغين عوز»، الذى يفصل بين شرق خان يونس وغربها. هذا المحور، الذى يمتد على نحو 15 كيلومترا، يشكّل جزءا مركزيا من الضغط على حماس وحسم لواء خان يونس».
إن محور «مغين عوز»، الذى أُطلق عليه هذا الاسم، على الأرجح، بسبب قربه من كيبوتس «نير عوز» الذى تلقى الضربة الأشد خلال «مجزرة» «فرحة التوراة»، يُرسّخ السيطرة الإسرائيلية على جنوب القطاع، ويُنتج تواصلا مهما مع منطقة رفح الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية بالكامل، بينما يطوّق مدينة خان يونس ويشكّل حاجزا بينها وبين مدينة رفح. وينضم هذا المحور إلى ثلاثة ممرات سابقة، باتت أسماؤها مألوفة لكل إسرائيلى: محور نتساريم، ومحور موراغ، ومحور فيلادلفيا.
بعد مرور 20 عاما على تدمير كتلة «غوش قطيف»، التى ستحلّ ذكراها بعد أسبوعين، وذكرى 20 عاما على الانسحاب من القطاع، يعود الجيش الإسرائيلى إلى المفهوم الأمنى نفسه الذى بُنيت على أساسه المستوطنات اليهودية فى القطاع: «خطة الأصابع». هذه العملية أثبتت الأهمية الأمنية التى كانت للمستوطنات اليهودية فى قطاع غزة.
إدخال «أصابع» من الاستيطان اليهودى
كانت المعارك ضد «الإرهاب» فى القطاع فى الفترة 1970-1971 هى التى عجّلت بخطط الاستيطان. وكانت الفكرة المركزية التى وجّهت التفكير فى الاستيطان فى القطاع واحدة: كسر التواصل العربى بين مئات آلاف الفلسطينيين، من خلال إقامة مستوطنات يهودية على الأراضى الحكومية المتاحة. شُبّه هذا التوجه بإدخال «أصابع» من الاستيطان اليهودى إلى القطاع، بهدف كسر التواصل العربى وخلق وجود يهودى مدنى يمهّد، لاحقا، لوجود أمنى - عسكرى لتأمين تلك المستوطنات. (إن وصف الطرق الحالية يستند إلى متابعة المحلل الجغرافى بن تسيون ميكليس).
كان «الإصبع» الأول هو إقامة كتلة استيطانية فى شمال قطاع غزة (حيث أُقيمت، لاحقا، مستوطنات إيلى سيناى ونيسانيت)، وكان الهدف منها تمديد الاستيطان اليهودى، جنوبى مدينة أشكلون، حتى أطراف بيت حانون وغزة.
«الإصبع» الثانى كان نتساريم. هذه الكتلة، التى خُطط لها، حسبما ذُكر، كمدينة استيطانية كبيرة، أُقيمت فيها فى نهاية المطاف مستوطنة مجتمعية متوسطة الحجم، وكان هدفها قطع التواصل بين البلدات العربية الواقعة بين غزة ودير البلح. وفى الحرب الحالية، عاد «ممر نتساريم» إلى الحياة مجددا على أساس المبدأ نفسه، فقط من دون المستوطنة التى منحته اسمها.
أمّا «الإصبع» الثالث، فكان كتلة مستوطنات، هدفها فصل دير البلح عن خان يونس، ولاحقا، أُقيمت فى هذا «الإصبع» مستوطنات قطيف ونيتسر حزانى وغانى طال، فضلا عن كفار داروم الأبعد نسبيا. لاحقا، أصبحت الطريق المؤدية إلى هناك معروفة باسم «محور كيسوفيم»، وهناك طريق لا تزال بهذا الاسم اليوم، وإن كانت لا تصل إلى البحر.
المحور الجديد، «مغين عوز»، بُنى تقريبا فى موازاة هذه الطريق. ينطلق جنوبى كيسوفيم ويتجه جنوبا على طريق «صلاح الدين»، التى كانت تُعرف سابقا بالطريق رقم 4، ويحيط هذا المحور بالجهة الشرقية لمدينة خان يونس، ويتصل بموراغ، بهدف الفصل بين دير البلح وخان يونس.
«الإصبع» الرابع كان كتلة مستوطنات تهدف إلى الفصل بين خان يونس ورفح. ولاحقا، أُقيمت فيها مستوطنات: جان أور، وجاديد، وبدولَح، وبنى عتصمون، وموراغ، وفَعت ساديه، ورفيح يام. واستنادا إلى هذا «الإصبع»، أُنشئ محور موراغ الحالى الذى ينطلق من منطقة سوفا إلى مفترق موراغ، ويتابع على الطريق القديمة بين موراغ وفعَت ساديه، قاطعا رفح عن بقية القطاع. وتماما فى منتصف الطريق بين هذين «الإصبعين»، وبعد إخلاء سيناء، أُقيم مركز إقليمى كبير، هو نفيه دقاليم الذى وحّد الكتلتين الاستيطانيتين السابقتين فى كتلة واحدة كبيرة: كتلة غوش قطيف.
أمّا «الإصبع» الخامس، الذى كان أول ما قُطع، فكان «فتحة رفح» (منطقة ياميت)، وكان هدفه خلق حاجز استيطانى بين قطاع غزة وشمال سيناء. الاستيطان فى هذه المنطقة سبق الاستيطان داخل القطاع. وبدلا من هذا «الإصبع» الذى لا يمكن تجديده طبعا، كونه يقع فى أراضٍ مصرية، أُقيم بعد اتفاق السلام مع مصر، وأيضا فى الحرب الحالية، محور «فيلادلفيا»، الذى كان اسمه الرمزى فى الخرائط السرية على طول الحدود بين إسرائيل ومصر، من كرم أبو سالم حتى البحر.
هل كان شارون هو المبادِر، أم استولى على الفكرة؟
مَن هو صاحب فكرة «خطة الأصابع» الأصلية؟ طوال سنوات، كان أريئيل شارون يقول إن الفكرة كانت فكرته، وقال لى ذلك أيضا عندما أجريتُ مقابلة معه بشأن هذا الموضوع فى سنة 1988. لقد حكى لى شارون فى تلك المحادثة عن إيغال آلون ويسرائيل غاليلى، وهما من قادة حزب «أحدوت هاعفوداه» ومن قادة «الكيبوتسات المتحدة»، وكانا وزيرين بارزين فى الحكومة الإسرائيلية: «فى شهر يوليو 1971، نظّمت جولة ميدانية للجنة الوزراء لشئون الاستيطان فى القطاع. حطّت المروحية على كثيب رملى مرتفع، فى المكان الذى تقع فيه مستوطنة نتساريم حاليا. وقفت هناك وعرضت أمامهم «خطة الأصابع»، الخطة التى ابتكرتها لإقامة كتل استيطانية فى القطاع، وعندما وصفت لهم كيف سيبدو الاستيطان هناك، رأيت عيون آلون وغليلى تلمع عندما سمعا بالخطة، وكانا جديَّين، ومن المستوطنين الحقيقيين». يغال ألون ويسرائيل غليلى، رحمهما الله، كانا فعلاً من روّاد الاستيطان الحقيقيين، وهما، من دون شك، لم يكونا ليصدّقا أنه بعد ثلاثين عاما، أن ذلك اللواء الشهير الذى قضى على «الإرهاب» فى غزة وتحدث بحماسة عن خطط الاستيطان، سيأمر من مكتب رئيس الحكومة باقتلاعها.
بعد الأبحاث التى أجريتها فى موضوع الاستيطان، لم أعد مقتنعا بأن شارون لم يستحوذ على أفكار غيره، وعلى رأسهم إيغال آلون. ففى 9 مايو 1968، أى بعد أقل من عام على حرب يونيو، قدّم آلون للحكومة اقتراحا بشأن إقامة مستوطنتين «سواء بصيغة نقاط ناحال، أو بصيغة مستوطنات مدنية، بين رفح ومدينة غزة». وفى الشرح المرافق للاقتراح، كُتب: «توجد قطع أراضٍ يمكن تجهيزها بسهولة، وبتكاليف غير باهظة. هذه المستوطنات لها أهمية عليا فى مستقبل القطاع السياسى من خلال تقسيم القطاع من جنوب مدينة غزة. كذلك، هناك أهمية أمنية كبرى لوجودٍ يهودى فى قلب غزة». إن تعبير «تقسيم القطاع» هو بالضبط جوهر «خطة الأصابع». وكان قائد المنطقة الجنوبية فى الجيش، آنذاك، لا يزال يشعياهو غافيش، أمّا شارون، فقد تولى المنصب فقط فى ديسمبر 1969.
فى يوليو 1971، وفى موازاة الجولة التى أجراها شارون للوزراء، بدأ فريق مهنى بإعداد خطة رئيسية لقطاع غزة وشمال سيناء، بناءً على طلب قائد المنطقة العميد يتسحاق فوندق. ترأّس الفريق المستشار الاقتصادى لوزارة الدفاع الدكتور بنحاس زوسمان، ورفع تقريره إلى لجنة خاصة ضمّت زوسمان نفسه إلى جانب منسّق شئون الأراضى المحتلة اللواء شلومو غازيت والعميد فوندق وآخرين. وفى مرحلة لاحقة، وُسّعت اللجنة ليشارك فيها ممثل دائم لقائد المنطقة الجنوبية، وكان هذا الممثل هو العقيد حغاى حيفتس، المبعوث الشخصى لأريئيل شارون.
أنهت اللجنة عملها فى أكتوبر 1972، فى وثيقة ضخمة من نحو 200 صفحة، بعنوان: «منطقة قطاع غزة وشمال سيناء – خطة رئيسية». كانت هذه الدراسة شاملة للغاية، ورسمت خططا طويلة الأمد لمستقبل القطاع من جميع الجوانب: تخطيط الاستيطان اليهودى، وتخطيط المدن والقرى العربية، ومعالجة مفصلة لمشكلة اللاجئين، وغيرها.
وفيما يخص الاستيطان اليهودى، وردَ فى الوثيقة أن «مهمة هذا الاستيطان هى خلق موطئ قدم على الأرض وتقسيم التجمعات والتواصل العربى». وفى موضع آخر، كُتب أنه «فى مرحلة لاحقة، سيتم تأكيد تقسيم القطاع أيضا من خلال مركز حضرى يهودى يُقام فى وسطه». وكان من المقرر أن يُقام هذا المركز الحضرى فى نتساريم، وهو مشروع بقى فى نهاية المطاف حبرا على ورق.
بعد عشرين عاما على قيام إسرائيل بتدمير كتلة غوش قطيف، ها هى تعود إلى التصور الأمنى نفسه الذى أسّس الاستيطان فى القطاع قبل خمسين عاماً. «لتُبنى وتُثبّت سريعا فى أيامنا، آمين».
حجاى هوبرمان
القناة 7 «عروتس شيفع»
مؤسسة الدراسات الفلسطينية