منذ أقل من أسبوعين كان كاتب هذه السطور فى ولاية فلوريدا لحضور مؤتمر سنوى يعتبر من أهم المؤتمرات العلمية فى تخصص تصميم الحاسبات، هذا المؤتمر كان كاتب هذه السطور رئيسه العام الماضى حين كانت فعالياته فى مدينة نيويورك، جدير بالذكر أن النشر فى المؤتمرات العلمية القوية فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات أهم من النشر فى المجلات العلمية وهذا عكس أغلب التخصصات العلمية، بل والأدبية الأخرى. المؤتمر هذا العام يشهد حدثا يحدث مرة كل أربع سنوات، هذا الحدث هو عقد مؤتمرات من تخصصات أخرى فى مجال علوم الحاسب وهندسة الحاسب والبرمجيات والحاسبات فائقة السرعة إلخ فى نفس الوقت والمكان، أخذ عدد هذه المؤتمرات يتزايد حتى أصبح عدد المؤتمرات هذا العام أربعة عشر مؤتمرا، طبعا من الصعب تكرار ذلك كل عام نظرا للتنظيم الضخم الذى يحتاجه ذلك. فى الأعوام الثلاثة القادمة سيعقد كل مؤتمر من تلك المؤتمرات منفردا وفى أماكن مختلفة ثم يجتمعون مرة أخرى فى السنة الرابعة. الفكرة من عقد تلك المؤتمرات معا هو دفع الباحثين من مختلف التخصصات للاجتماع وتبادل الأفكار مما قد ينتج أفكارا جديدة مثيرة لأن العلم فى عصرنا هذا قد ازداد تعقيدا وحطم الحوائط بين التخصصات، والأفكار المفيدة والكبيرة أصبحت تحتاج تخصصات عدة.
يجب أن نفرق بين الأبحاث التى تحتاج عدة تخصصات (multidisciplinary) وتلك التى تحتاج تخصصا يقع «بين» عدة تخصصات (interdisciplinary)، بعض الناس يخلط بين هذين النوعين نظرا لقربهما من بعضهما لكن هناك فارقا مهما. فى النوع الأول تكون هناك مشكلة بحثية ما يحاول باحثون حلها كل عن طريق تخصصه، فى النهاية سنحصل على عدة حلول لنفس المشكلة لكن من زوايا عدة، فمثلا علم الأعصاب (neuroscience) الذى يحتاج تضافر جهود الأطباء وعلماء الأحياء والكيمياء إلخ. أما فى النوع الثانى فالمشكلة البحثية تحتاج لتضافر جهود باحثين من تخصصات مختلفة للحصول على حل واحد للمشكلة البحثية، مثلا المشكلات البحثية فى علم العقل أو الذهن (cognitive science) وهو علم يقع بين علوم الأعصاب، والنفس والاجتماع واللغويات للوصول لكيفية عمل القدرات العقلية مثل اللغة أو التذكر يجب تضافر كل هذه الجهود. يجب ألا ننسى أن العلوم تشبه الكائنات الحية وتتشكل وتتطور فمثلا من العلمين المذكورين ظهر علم ثالث وهو (cognitive neuroscience).
هل تتصور أن هناك علما يجمع بين علم النفس وعلوم الحاسب والرياضيات؟ هذا العلم يسمى (computational psychology) حيث يتم استخدام الحاسبات للقيام بعمليات محاكاة لمعرفة كيف يعمل المخ من الناحية النفسية، هذا مثال جيد لكيفية تداخل العلوم خاصة إذا علمنا أن علم النفس فى التخصص الأدبى فى الثانوية العامة عندنا وعلوم الحاسب والرياضيات فى القسم العلمى، لذلك ظهور علماء فى هذا التخصص عندنا يحتاج مجهودا كبيرا من الباحث حتى يُحصِل علما لم يدرسه قط من قبل (سواء علم النفس أو الحاسبات والرياضيات).
التخصصات البينية والمتعددة هى ما يحتاجه هذا العصر الذى نعيشه وهذا يحتاج إلى فريق من الباحثين متعاونين حتى نحصل على نتائج مذهلة، هذا ما يجب أن نسعى إليه ولا نسجن أنفسنا فى الحوائط التى تسجن كل علم وحده.
أعتقد أنه من المفيد عندنا فى مصر أن نسير على نفس هذا الدرب ونبدأ فى عقد مؤتمرات تغطى عدة مجالات، قد يقول قائل إن تكلفة ذلك قد تكون كبيرة لأنه سيؤدى إلى زيادة عدد المؤتمرات، لكن يمكننا تقليص عدد المؤتمرات المتكررة وبالتالى سيصبح بالإمكان عقد تلك المؤتمرات العابرة للعلوم، فمثلا كم مؤتمرا عندنا فى مصر متخصصا فى علوم الحاسب؟ هل نحتاج كل تلك المؤتمرات؟ لماذا لا نوحد الجهود ونعقد مؤتمرا واحدا كبيرا لعلوم الحاسب وبالتالى يتبقى وقت وجهد لعقد تلك الفاعليات التى تجمع أكثر من تخصص. طبعا يجب أن نذكر أن عندنا بعض المؤتمرات التى تجمع جميع التخصصات فى مؤتمر واحد فتجد مؤتمرا للحاسبات مثلا وفيه أى شىء متعلق بالحاسبات، لكن أى مؤتمر محدد بمدة زمنية قليلة لا تتجاوز ثلاثة أيام وبالتالى ستكون الأبحاث المقدمة فى كل تخصص قليلة جدا وهذا يضعف المؤتمر، هناك فارق كبير بين مؤتمر يجمع بين تصميم الحاسبات والذكاء الاصطناعى والبرمجيات وبين ثلاثة مؤتمرات فى كل تخصص من هذه التخصصات لكن تعقد فى وقت ومكان واحد ويكون لكل مؤتمر منها هيئة تنظيمية ولجنة تحكيم مختلفة.
فهل يمكننا عمل ذلك؟