قبل اللحظة الأخيرة - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 3:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قبل اللحظة الأخيرة

نشر فى : الإثنين 1 أغسطس 2016 - 10:10 ص | آخر تحديث : الإثنين 1 أغسطس 2016 - 10:10 ص

أغمضت عيناها للحظة راحت تتحسس تفاصيل المدينة والبشر وتخزن صورا كثيرة. تداعت العديد من الوجوه والأشخاص وازدحمت الأسماء كثيرا منها يتشابه، رغم أن كل واحد يختلف فى الشكل والقناعات والمضمون. وقفت طويلا عند حافة المدينة والجبال أمامها. أرسلت التحية ما قبل الأخيرة أو ربما مجرد التحية والاعتذار عند الوداع.

تعرف تماما أن لا كلمات هناك لا فى الشعر ولا فى النثر تكفى لتقول ما بقى مخزن بداخلها واستوطن باطن القلب. لا تعرف ماذا تفعل بكمية الحزن التى ملأت أحشاءها واغتسلت بدمها لحظة بلحظة.

كانت الشوارع مزدحمة كعادتها فى هذه الساعة وحتى مع الازدحام الذى ضج بوقع ضوضاء العربات، كانت المدينة ترقص الفالس على وقع بعض القذائف وكثير من الحب لهذه الأرض. كم جميل أن يحب أحدهم الأرض أكثر من كل شىء رغم أهميته حتى أكثر من نفسه.

•••

تمنت أن تستطيع أن تقف قليلا عند حافة الجبل تلقى النظرة الأخيرة من العلو نحو مدينة لا تعرف سوى كثير من الحب والعطاء، ناسها يحملون الحب رغم كل الألم المعتق بداخلهم. هذه الأرض تنبت عسلا ومشمشا وبعض الأمل الذى لولاه لبقيت هى نسخة متكررة من بعض تلك المدن المنزوعة الروح.

فتحت هاتفها وكأنها تتأكد أن لديها كثيرا من الصور مخزنة فى ذاكرته كما هى فى ذاكرتها، خوف من عوامل السن وتعرجات الأيام الصعبة القادمة. هى تدرك حتما أنهم لن يمحوا أبدا بل قد حفر كل منهم مكانه بين البشر فى أحشائها. ستنتقل معهم حيث ترحل. بعض ألمهم هنا وكثير من حزنهم ودمهم هناك.

قبل تلاشى الصور للبيوت المصطفة على سفح الجبال والعمارات التى رُصت بعناية عند حافة الطرقات، والباصات المزدحمة بالوجوه المتعبة القابضة على بعض من الأمل، رغم كل التعب وكل الموت وكل المرض وكل الكل! وقبل أن تختفى المعالم الأخيرة لتلك المدينة كانت هى قد قررت أنه ليس الرحيل حتما أو أنها مدينة لا يمكن إلا أن تبقى تحفر معالمهم وتفاصيلها فى الذاكرة الباطنة حيث لا يمكن أن تمر بها عوامل التعرية وتراكم السنين.

•••

راحت تبحث عن القصائد التى كتبت عنها وكثير منها تحول إلى أغانى الرقى وليست أغانى العبث الهزيل، قرأتها واحدة خلف الأخرى وكلما تعمقت أكثر وجدت أن كل هذا الكم من الشعر لا يعطيها حقها حتما، رغم أنه كثير الشفافية ومرهف الحس ويخزن الحب فى باطن زهرة الليمون. لم يسبق لها أن عرفت أن زهرة الليمون ممكن أن تتحول إلى ألف مذاق إلا عندما سكنت تلك المدينة وبعدها عندما سكنتها المدينة!

لكل نبتة أو حبة مذاق خاص فى مراحلها المتعددة وهى كذلك، أى تلك المدينة هى الأخرى لها مذاقاتها المتعددة. فعند الثامنة مساء وفوق تلك الشرفة المزينة بكثير من الشجر وزهر الياسمين وقفت طويلا والظلمة تخيم على المدينة بفعل انقطاع الكهرباء ولكن يبقى البدر ينير سماء مطعمة بالنجوم والنيازك.

أما فى الصباح الآخر، فتغتسل بأول أشعة للشمس تتساقط على طرقات وشوارع غسلت للتو بماء، ليخلص من تعب يوم أو ربما حزنه الأكثر حضورا على وجوههم جميعا. ترسل السماء نسمة مع سرب من العصافير. كيف للعصافير أن تبقى تحلق أسرابا فى سماء الحزن هو أمر آخر مختص بهذه المدينة التى وقفت البلابل تداعب نسمات متقطعة فى صيفها الحار نهارا، الطرى جدا مساء!!!

وقبل اللحظة الأخيرة راحت تتابع من خلف شباك سياراتها حبات الرمل فوق السهول الشاسعة وبعض حجز جميل وكثير من الصور. وراحت تكرر السؤال ربما لتصدقه أو ربما لمعرفتها أنها لا تزال تسكن هنا أو هى تسكنها. قد تكون هى اللحظة الأخيرة من الفصل الأول فقط ربما؟؟؟!!!

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات