استقبلنى عند سلم الطائرة فى مطار شامبينو، نبيل العربى الصديق والملحق السياسى بالسفارة المصرية ليصطحبنى مع عائلتى الصغيرة إلى فندق متواضع فى أحد أزقة وسط العاصمة الإيطالية لنقضى فيه بعض أيام البحث عن شقة مناسبة فى حى غير سياحى. ودعنى بعد إنهاء إجراءات التسجيل على وعد أن يعود فى صباح اليوم التالى ليقلنى إلى حيث يوجد مقر سفارتنا. حضر مبكرا واستأذن أن نتوقف معا فى مقهى بعينه تعود أن يتناول فيه إفطاره كل صباح.
حمل المقهى اسما سبق أن أتيت على ذكره فى انطباعاتى عن «ميادين فى حياتى» وهو بياتسا أونجريا، ومعناها ميدان هنغاريا. فهمت أننا لن نجلس. سحبنى نبيل من يدى نحو الداخل حيث يعمل العمال أمام ماكينات ضخمة لصنع القهوة الاسبريسو. هناك فى هذا المقهى وفى هذا اليوم التالى لوصولى إلى إيطاليا تعرفت على واحدة من أهم علامات أو رموز الحياة فى إيطاليا، تعرفت أو جرى تعريفى على فنجان الاسبريسو الشهير، سمعت النادل يسألنى إن كنت أفضله لونجو أى طويل أم ريستريتو أى مقيد أو مركز. جاءته الإجابة من مضيفى «ريستريتو» وهى عبارة عن شفطة واحدة لا أكثر هى خلاصة مركزة لعبوة كاملة من مسحوق البن. مرت سنوات على هذا التعارف، تنقلت خلالها بين مدن وثقافات عديدة، لم أحاول أن أشرب القهوة الاسبريسو إلا مركزة كما لو كنت على عجل أو على الطريق أو «خرمان».
• • •
كنت على مكتبى فى السفارة بنيودلهى ولم يمض على وجودى بالهند سوى يومين عندما حضرت سكرتيرة السفارة تبلغنى بتفاصيل رسالة هاتفية وردت تحمل دعوة غداء من عميد السفراء العرب السفير السعودى، الشيخ الفوزان، فى مطعم نادى الجيمخانة، المعادل تقريبا لنادى الجزيرة فى القاهرة. هناك على الغداء تعرفت على فتاة جميلة ومتحدثة لبقة بأكثر من لغة قدمت نفسها باعتبارها نجلة سفير سوريا، وعند التوديع دعتنى إلى شرب فنجان قهوة فى مقهى بوسط نيودلهى بعد ظهر اليوم التالى بمناسبة استلام عملى ملحقا سياسيا بالسفارة المصرية. ذكرت عرضا أن المقهى يقع فى طريق عودتها من الجامعة فى دلهى القديمة إلى سكنها بالسفارة السورية فى دلهى الجديدة.
كنت هناك فى الموعد المحدد. المقهى المسمى جاى لورد لا يختلف شكلا أو تأثيثا عن كثير من المقاهى الإنجليزية التى كنت أتردد عليها خلال إقاماتى القصيرة فى مدينة إدنبره الإسكتلندية ومن مقهى مشابه فى حى الزمالك بالقاهرة. أرادت مضيفتى أن تعرفنى على المقهى الذى يفضله شباب السلك الدبلوماسى الأجنبى فى نيو دلهى. منهم أنجال ونجلات الدبلوماسيين ومنهم صغار السن من الشبان حديثى الالتحاق بالدبلوماسية وقد دعيت بهذه الصفة. أذكر أنه كان لهذا المقهى الفضل فى صنع شبكة علاقات عمل نسجت أولى خيوطها فى ركن أو آخر من أركانه المريحة. للمقهى فضل آخر أهم وأبقى وهو الموقع الذى احتوى علاقة جيدة تطورت لتصير أساسا لعائلة عركت أحداثا كبار وصمدت فى وجه عديد الأنواء وأثمرت أفضل الثمار.
• • •
لمقاهى بيروت نكهة ودور وتاريخ نادرا ما عرفت مثيلا لها فى مدن أخرى. أتحدث فى واقع الأمر عن مقاهى الحمرا، الشارع الذى ربما سجل وحده أكثر من نصف ما تردد من حكايات سياسية عن لبنان وعن غيرها من الدول العربية. قيل، بمبالغة معقولة، إنه ما من تغيير سياسى هام يحدث فى عاصمة عربية إلا ونبتت بذرته على رصيف مقهى من مقاهى الحمرا. كنت شاهدا على عمق وصدق هذه المقولة مرتين. مرة ترامى إلى سمعى عن غير قصد نقاش حاد صادر عن مائدة قريبة من مائدتى بين اثنين أحدهما شخصية مرموقة فى بلده، كان موضوع الحديث عن ضرورات التغيير العاجل فى نظام حكم بعينه.
مرة أخرى كانت عندما اجتمعنا، هيكل وأنا، فى فندق السان جورج على شاطئ المتوسط، بقيادات سابقة فى حزب عربى كبير. يومها استمعنا إلى تفاصيل محاولات تغيير وقعت فى دولتين عربيتين باءت جميعها بالفشل وكيف أن مصر مسئولة عن إجهاض هذه المحاولات. كان حاضرا فى الاجتماع وحاملا على مصر صاحب الشخصية المرموقة التى كانت طرفا فى النقاش الحاد الذى دار قبل سنوات على رصيف الحمرا وكنت شاهدا عليه.
• • •
عشت معظم سنوات إقامتى بالأرجنتين فى بيت قريب من شارع سانتافيه، أحد أهم وأطول شوارع العاصمة بيونس آيرس. تعرفت هناك على كوين بيس، المقهى الإنجليزى الذى قدمنى إلى القيادات الشبابية فى الحركة النقابية الأرجنتينية. أعجبنى هذا التناقض. فالمقهى مزدان بلوحات عن الريف الإنجليزى وصور فوتوغرافية لقادة سياسيين بريطانيين زاروا المقهى ولعدد من الشخصيات الأرجنتينية من أصول إنجليزية أغلبهم أسس لطبقة أرستقراطية هيمنت على مقادير الحكم لفترة طويلة قبل أن تأتى إيفا بيرون فى ظل العسكريين لتهز أسس هذه الطبقة وتقاليدها. عشت مدينا لهذا المقهى بفهم لا بأس به لتاريخ وثقافة الأرجنتين السياسية من خلال علاقات بممثلى الأطراف السياسية والنقابية ونقاشات حادة وعنيفة جرت وفق التقاليد الإنجليزية بصوت خافت وفى هدوء وبنعومة بالغة.
• • •
تبقى فى النهاية مقاهى مدينة فيينا نموذجا وربما الأصل فى نشأة وانتشار المقاهى الأوروبية. تعاملت خلال إقاماتى المطولة والقصيرة فى روما وميلانو وجنيف وباريس وأمستردام وإستانبول وبرلين مع مقاهٍ كانت تتعمد الإيحاء بأنها نسخ مكررة للمقهى الفييناوى. أعرف بالممارسة كزبون صارت له خبرة وقدرة على التمييز بين ما هو أصلى وما هو تقليد فى خدمات وذوق وروح وملابس النادلات والندلاء ونكهة القهوة وطعم ورائحة المخبوزات. يفتخر النمساويون بدور مخبوز بعينه فى كسر حصار المسلمين للعاصمة النمساوية خلال رحلة التوسع الإمبراطورى العثمانى فى أوروبا، ثم أصبح الكرواسان ثابتا من ثوابت وجبة الإفطار لدى معظم شعوب الغرب.
الحديث يطول عن المقهى الفييناوى ودوره فى غرس أو تنشيط الوعى بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية. تذكرت دورا مماثلا خلال زياراتى المتكررة لبعض مقاهى بيونس آيرس التى كانت تقدم لنا مع القهوة موسيقى ورقصات التانجو الأشهر والأقدم، وبهذه المناسبة أذكر زيارة لمقهى شعبى فى مدريد قدم لنا مع المشروب عرضا متواضعا لأغانى ورقصات على إيقاع موسيقى الفلامنجو.
• • •
الحديث عن مقاهٍ أجنبية يجب أن يمتد ليشمل مقاهى مصر الأجنبية، وما أكثرها في ذلك الوقت.