يرهقنى البحث فى الذاكرة عن تفاصيل واقعة لم يمر عليها فى عديد الحالات أكثر من ساعات قليلة. لست وحدى فكثير من الأقران ممن هم فى عمرى مرهقون بقدر ما أنا مرهق. يحدث هذا ويتكرر كل يوم. تدهشنا خزانة الذاكرة التى لا تنفتح إلا بوافر الجهد أمام واقعة قريبة، لكنها تنفتح على مصراعيها فى أول محاولة للبحث عن تفاصيل واقعة حدثت قبل ستين أو سبعين سنة. لفرط انبهارى صرت أتخيل هذه الذاكرة وقد أصبحت رادارا هائلا يخيم فوق رءوسنا يحجب عنا المعلومات الأحدث ويفيض علينا بالمعلومات الأقدم بعد أن يكون لغرض فى نفس منشئه، قد حلل ثم صنف المعلومة بدقة وكفاءة مصنف وثائق ومعلومات على أعلى مستوى وأودعها مكانا لا تخطئه عين الباحث. يرفض أن يحثه وقت أو ضرورة ويؤكد مرة بعد أخرى أنه سيد قراره والحاكم بأمره.
• • •
جرنى إلى هذا الموضوع تعبير تردد كثيرا خلال الأيام القليلة الماضية، وكانت أياما تختلف عن أيام سبقتها وفى الغالب تختلف عن أيام أراها تقف قرب الأفق متكاسلة تنتظر إشارة أو أخرى تنضم على إثرها لقافلة الزمن. سمعتهم جميعهم المدعوون إلى الواقعة يأتون على ذكر الطبقة الوسطى المصرية. كل من تكلم أتى على ذكرها باعتبارها الطبقة المزعجة دائما فى هذا المجتمع كما فى غيره من المجتمعات، أو باعتبارها صانعة المعجزات دائما فى كل الدول، أو باعتبارها المعضلة الأبدية غير القابلة للحل السهل، فهى الحاكمون والمحكومون معا. هى طبقات تتخفى فى طبقة أو هى طبقة واحدة شاسعة الامتداد ومتعددة المراتب كالهرم الأكبر، ولكن مراتب هذه الطبقة ليست فى ثبات مراتب الهرم وخلودها. سمعت فى هذه الأيام القليلة من يتحدث عن طبقة وسطى عليا وطبقة وسطى وسطى وطبقة وسطى دنيا وطبقة وسطى حاكمة وطبقة وسطى عسكرية وطبقة وسطى تكنوقراطية وطبقة وسطى بيروقراطية وطبقة وسطى مهيمنة وطبقة وسطى كادحة وطبقة وسطى جديدة وطبقة وسطى عتيقة وغيرها وغيرها. أحيانا يتعب المتحدث أو ينسى عن أى طبقة وسطى يتحدث خاصة وأن مواصفاتها كما وردت فى حديثه انطبقت على طبقة وسطى اندثرت منذ عقدين أو ثلاثة ولا وجود لها إلا ضمن طبقة أخرى أعلى أو أدنى تسكن العشوائيات أو تعيش مؤقتا فى عدد من المهاجر.
• • •
أعود الآن إلى الرادار الذى أخذ على عاتقه مسئولية تصنيف الأشياء وترتيب طبقات المجتمع وتعريف فصائل الشعب وحدد لنا ما يجب أن نتذكره من على البعد وما يجب أن يغيب عن الذاكرة لأجل مرسوم. حاولت أن أتذكر فحوى النقاش الذى دار فى الأيام القليلة الماضية بانفعال حينا وبهدوء حينا آخر حول ماهية الطبقة الوسطى أو بالأحرى الطبقات الوسطى فى المجتمع المصرى، حاولت فخانتنى الذاكرة. حاولت أن أتذكر تفاصيل مرحلة مبكرة فى طفولتى، أو بالأحرى تفاصيل جانب من حياتى مر عليه أكثر من سبعين عاما. حاولت فانفتحت لى على جميع مصاريعها خزانة الذاكرة. هل هناك من يريد أن أنسى تفاصيل ما دار فى واقعة الأمس ويسعى لتعويضى بتفاصيل عديدة عن وقائع وقعت وأنا طفل صغير؟
• • •
كنت فى الخامسة من عمرى. توقظنى أمى وتلبسنى ثيابا جديدة اشترتها لى من محل كبير بشارع فؤاد الأول، لعله شيكوريل. أذكر واقعة الشراء لأننى جربت الملابس قبل شرائها وكعادتها فى كل زيارة لهذا الشارع كانت تكافئ نفسها وتدللنى بصحن به ثلاث قطع من الأيس كريم تزينها أنواع من الفاكهة والمربى. كبرت وتبنيت هذه العادة. صرت كلما زرت وحدى أو مع أصحابى هذا الشارع أذهب إلى محل «الأمريكان» الكائن على ناصية شارعى فؤاد وعماد الدين أو فرعه الآخر على ناصيتى فؤاد وسليمان باشا وأطلب هذا الصحن اللذيذ. أذكره، ولا أبالغ حين أقول كلما تذكرته عاد الطعم يهف على ذاكرتى يداعب لسانى وحلقى. الغريب أننى اكتشفت فى نهايات طفولتى وبواكير مراهقتى أن ترجمة اسمه الفرنسى إلى العربية كانت تكفى لصده ونسيانه، وكلاهما لم يحدث. اسمه بالعربية كما جرى نحته فى ذاكرتى هو «الخنازير الثلاثة الصغيرة».
أرتدى فى الصباح الباكر جدا ثيابى الجديدة وترتدى «سيدة» الخادمة جلبابا جديدا فصلته الخياطة التى كانت تأتى إلى بيتنا يوما محددا لا يتغير من كل أسبوع، وهو اليوم الذى تكتظ فيه شقتنا بعديد الجارات والقريبات من الأهل. كانت أمى تهتم بما ارتدى وبتسريحة شعرى وبوجبة غداء فى عامود الألومنيوم المكون من ثلاث طبقات، طبقة للأرز وطبقة للخضار المطبوخ وطبقة للحلو أو الفاكهة. تحمل «سيدة» العامود وشنطة صغيرة تتسع لكراسة وأقلام متنوعة الألوان والأغراض. تحمل أيضا فى كيس منفصل كوبًا هو الآخر من الألومنيوم يمكن بالضغط أن يتحول إلى علبة صغيرة إذا فتحت صارت كوبا وإذا ضغطنا على الكوب عاد علبة بغطاء محكم. قلت إن «سيدة» كانت تحمل عامود الأكل وحقيبة مدرسية وتحمل أيضا بطانية صغيرة فى حال اشتد ساعد البرد فى هذا الصباح النادى. لا أنسى أنها كانت تتلقى تعليمات بأن تحملنى لو تعبت من المشى فشكوته لها. نسيت أن أحكى عن «سيدة» الإنسان. كانت «سيدة» المكلفة بحمايتى وحملى عند اللزوم تكبرنى بست سنوات. كانت فى الحادية عشرة عندما كنت فى الخامسة ولها مهام عديدة منها اصطحابى كل صباح إلى المدرسة وكل عصر منها، أما المدرسة فكانت للراهبات الألمان وموقعها القريب من ميدان باب اللوق والبعيد بكيلومترات عن منزلنا بشارع سامى الموازى لشارع مجلس النواب. كنا ملزمين بعبور خط الترام فى شارع نوبار والدوران حول أسوار وزارة الداخلية وكنت ملزما بعدم التفلت من يد «سيدة» الممسكة بيدى بحزم وإصرار.
سألت بعد سنوات فعلمت أن «سيدة» التحقت للعمل فى منزلنا مقابل مبلغ عشرة قروش فى الشهر تأتى أمها مرة كل عام لتتحصل على جنيه وعشرين قرشا. أذكر بجلاء محتويات القفة التى كانت تدخل بها إلى بيتنا فى زيارتها السنوية. أذكر من المحتويات «دكر» بط وفطير مشلتت وجبنة قريش وعيش فلاحى رقيق وزبدة بلدى تحاسبها أمى وبعد يومين تغادرنا إلى حيث تعيش مع زوجها فى أعماق «الفلاحين».
• • •
انتقلت فترة لبيت شقيقتى الكبرى فى شارع الفلكى القريب من مدرسة الراهبات. بعد سنوات انتقلت شقيقتى إلى شقة فى بناية حديثة تطل على ميدان لاظوغلى وامتداد شارع نوبار المنتهى عند سينما ستراند الصيفية. كبرت وكبرت «سيدة» طلبت من شقيقتى أن تأتى بزوجها من الريف حيث يعيش وحده بدون عمل إلى القاهرة، وطلبت من أهلى البحث له عن عمل. استجاب جار لنا فعينه المستشفى «الإسرائيلى» لمهمة النظافة. واستجابت شقيقتى فأخلت لسيدة وزوجها، وقد صار لهما أولاد وبنات، غرفة فوق سطح العمارة، وكان صاحب البناية قد خصص عشر غرف أخرى ليبيت فيها الخدم. هكذا، وبالفعل، بدأت سيدة تتصرف مع أفراد عائلتها الممتدة ومع عمال محلات البقالة والمطاعم والمقاهى فى الحياة باعتبارها تنتمى إلى طبقة غير طبقتها، فبحكم المسكن والدخل المزدوج لها ولزوجها واندراج أولادها فى صفوف مدارس الحى صارت تستحق أن تتصرف تصرف عائلات الطبقة الوسطى.
• • •
مرت سنوات. عدت من الخارج متزوجا ومعى ابن وابنة. زارتنى «سيدة» وكانت تعمل من حين لآخر فى بيت شقيقتى. زارتنى ومعها ابنتها الكبرى وكانت تكبر فى العمر ابنى بسنوات قليلة. طلبت أن تعيش معنا ابنتها لأنها «مش فالحة» فى مدرستها وتريدها أن تكون قريبة من ابنى وشقيقته فتتعلم مما يتعلمان وهى فرصة ليعززا بها اللغة العربية التى لم يتقناها لنشأتهما فى الخارج. كانت «سيدة» تفخر بأن بقية أولادها جربوا التعليم فى معاهد التجارة المتوسطة وخرجوا ليعملوا فى وظائف ثابتة الأجر ويرتدون ملابس أبناء وبنات سكان العمارة وأغلبهم أطباء ومحامون وأساتذة فى الجامعة. انفصلت عن الريف، بحكم الموقع الجديد وتطلعات أولادها وتجاربها الشخصية معنا على امتداد سنوات عديدة. انفصلت فصارت وأولادها يتحدثون بلهجة المدينة ويتابعون مسلسلات أكدت لهم أنهم جزء من طبقة غير طبقة الفلاحين أو طبقة العمال. أذكر كيف أن ابنة «سيدة» التى استضفناها لتعيش معنا كانت مواظبة مثل ابنى على متابعة مسلسل بعينه، انتهى بها إلى أن شجعت ابنى على أن يحاول الطيران مثل سوبرمان، ففعل وكسر ساقه فوضعناه فى الجبس وظلت ابنة «سيدة» إلى جانبه ترفض أن تتركه مريضا حتى شفى وعاد إلى مدرسته. هم جميعا، أقصد «سيدة» وعائلتها، يمارسون كثيرا مما يمارسه أفراد العائلات التى يعيشون فى وسطها لسنوات عديدة يأكلون مما يأكلون ويشاهدون على الشاشة ما يشاهدون ويركبون المصعد نفسه إلى أعلى طابق فى البناية، ومن إحدى شقق هذا الطابق يمرون إلى سلم يقودهم إلى غرفتهم عند «السطح». وعاشت «سيدة» وأولادها وأحفادها فى هذه الغرفة لمدة 30 عاما.
• • •
مرت عقود عديدة. سألت عن هذا الفريق من سلالة «سيدة» بعد أن صاروا جزءا من تاريخ العائلة. رحل عن عالمنا من رحل، ومن بقى لا يذكر تفاصيل أذكرها كما ذكرتها فى السطور السابقة. المؤكد على كل حال أنهم ذابوا فى طبقة وسطى أضافوا إليها ربما أكثر مما أخذوا منها.