لم أجد اختلافات كثيرة بين حال الثورة فى مصر وحالها فى تونس على عكس ما أسمع فى كل منهما، أسمع فى مصر ثناء على وتيرة العودة إلى الاستقرار وبناء المؤسسات فى تونس وانبهارا بما تحقق، وأسمع فى تونس ثناء على استمرارية الثورة فى مصر وحيوية شبابها ونسائها والمشاركة الواسعة فى أنشطتها. تركت القاهرة فى الصباح والمسيرات تتوجه إلى التحرير ووصلت إلى العاصمة التونسية عند الظهر وهى تستعد لتظاهرة شعبية كبيرة فى القصبة. هنا وهناك جرت انتخابات ولم تتوقف لا هنا ولا هناك المسيرات والاعتصامات والاحتجاجات، وبالتأكيد، وبعد مرور أكثر من عام على الثورتين، لم تعد الأمور إلى ما كانت عليه، ولم تستقر أمور جديدة.
●●●
هبطت الطائرة فى مطار تفتقر أجواؤه إلى ضوضاء الحركة التى كانت إحدى أهم سماته فى الماضى القريب. وكادت صالاته وقاعات الانتظار تخلو من الأجانب، عصب السياحة وكانت تعج بهم صيفا وشتاء. لم تفاجئنى ملاحظة أن إجراءات السفر والاستقبال وسلوك المسافرين والمستقبلين من أهل البلاد لا تشير إلى أن تغييرا ثوريا وقع، تذكرت تعليق أحد كبار الصحفيين الفرنسيين فى لقاء جمعنا بأحد المطاعم الشعبية فى القاهرة حين قال إن البيروقراطيين كركيزة الدولة الحديثة هى التى أنقذت كلا من مصر وتونس من الوقوع فى براثن فوضى عارمة. وجدت النظافة فى المطار ليست أقل أو أكثر مما كانت عليه قبل سنوات، ومظاهر الأمن لا تختلف عما تعودت أن أراه. خالجنى للحظات شعور بأنه لو كان معى من لا يقرأ الصحف أو يشاهد التليفزيون ويستمع إلى برامج الكلام لما عرف أثناء مروره بهذا المطار أن كان فى هذا البلد شابا مات حرقا بسبب سوء معاملة الشرطة وإهمال المجتمع، وأن ثورة نشبت فى أعقاب موته، وأن شرارات من هذه الثورة طارت إلى دول عربية أخرى فأشعلت ثورة فى كل واحدة منها.
●●●
أخذتنا السيارة من المطار المتاخم لوسط العاصمة إلى الفندق المقام فى ضاحية أذكرها حين كانت غابة من الأشجار المتوحشة تطل على البحر المتوسط من ناحية وتونس العاصمة من ناحية أخرى. تحولت غابة الأشجار إلى غابة من المنتجعات السياحية لتمويلات خليجية طائلة. المسافة بين المطار والغابة التى كان يمكن أن تقطعها قبل عشرين عاما فى خمس عشرة دقيقة احتاجت هذه المرة إلى ما يقارب الساعة.
لم أشعر بطول المدة التى استغرقتها الرحلة إلى الفندق، فقد تولى صديق مسئولية تحديث معلوماتى عن طريق المطار بخاصة وعن تونس عامة. كنت متلهفا للحصول على معلومات أكثر من تلك التى كانت تصل إلينا فى القاهرة، وقام بالمطلوب وأكثر بل بما هو أهم، من وجهة نظره على الأقل. إذ تطوع بمهمة الشرح والتفسير والتبرير، وهى المهمة التى تمنيت لو أنها لم تتحقق فور الوصول وتأجلت إلى ما قبل الرحيل.
سمعت بعض ما توقعت أن أسمع. سمعت أن فى البلاد أزمة اقتصادية خانقة بسبب الاضطرابات، وبخاصة الاعتصامات والاحتجاجات التى شملت كثيرا من قطاعات العمل والإنتاج والمجتمع. كنت سعيدا لأن كلمة «الفئوية» التى نستخدمها فى مصر، أحيانا بنوايا طيبة وكثيرا بنوايا غير طيبة، لم يستخدمها رفيق المشوار إلا نادرا، وحين استخدمها اعترف بأنه فعل ذلك ظنا منه أنه يساعدنى فى الفهم. سمعت أيضا أن فى تونس الآن، وبعد الانتخابات، أزمة فى طور التكوين ومرشحة للتضخم، وربما الانفجار إذا لم تتوافر وبسرعة الشجاعة وبعد النظر والكفاءة لدى السياسيين الجدد للعودة بأسبابها إلى أحجامها الطبيعية. وقد أتيح لى خلال الأيام القليلة التى قضيتها فى تونس، أن أسمع الكثير عن هذه الأزمة المتوقعة من أصحابها الشرعيين، وهم فى هذه الحالة نساء تونس. تتلخص بوادر الأزمة فى كلمات قليلة النساء فى بلدنا، وبخاصة نساء مناطق الشمال والساحل، وهن الغالبية فى الجامعات والمدارس وبنسبة وفيرة فى قطاعات الإعلام والفن، مازلن تعانين من نقص شديد فى الاقتناع بأن شيئا ما غير مستحب من جانبهن يدبر لهن فى كواليس ونوايا وضمائر بعض قيادات حزب النهضة الإسلامى وحزب التحرير وتيارات دينية أخرى ظهرت فجأة.
●●●
سمعت كذلك أن الشخصية التونسية طاولها تغيير، تغيير يراه الكثيرون جوهريا. يقول الصديق التونسى إن الخوف من السلطة الذى لازم الإنسان فى تونس منذ أيام الزعيم الحبيب بورقيبة، وربما من قبله، أى منذ أيام الاستعمار الفرنسى، هذا الخوف اختفى، أو على الطريق ليختفى. لمست فى البداية أن فى الأمر مبالغة، ولكن بعد ساعات، ثم على امتداد أيام قضيتها فى تونس العاصمة، تيقنت من أن تغييرا، أكثر من بسيط أو عابر، وقع فى سلوك المواطن وتصرفاته. قال لى مسئول كبير إن ما حدث للمواطن فى أوروبا الشرقية خلال ثوراتها الملونة وفى أعقابها «نراه الآن يحدث فى تونس». لم تعد السلطة بالنسبة للمواطن وحشا مخيفا يقبع فى كل مؤسسة حكومية ويختفى وراء نواصى الشوارع، ويتسلل فى الليل إلى المنازل ويعتدى على الحرمات. هذا الوحش انهار ذات يوم، انهار جسما وفكرا وانهار أسطورة حين أدرك التونسيون أنهم هم الذين خلقوا هذا الوحش، وهم الذين قضوا عليه، وحين أدركوا أن السلطة علاقة أفقية متبادلة بين مواطن ومسئول، وأن المسئول يبقى دائما رهن مشيئة المواطن وليس العكس. إنه نوع مختلف من رأى وفكر لم أسمعه من قبل فى تونس، وبالتأكيد لم يكن سائدا فى مصر قبل الثورة.
●●●
اقتربنا من ضاحية قرطاج. هنا فى هذا المكان قضيت سنوات هادئة. استأذنت الرفيق الذى عين نفسه مرشدا لى فى أن أختلى بنفسى وأفكارى وذكرياتى، خشية أن يشتتها بحديثه عن أزمات تونس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أو إنجازاتها، وجدت الهدوء وقد صار أقل هدوءا، ووجدت ألوانا جديدة تنافس إن لم تفسد جمال ورونق خليط اللونين الأبيض الساطع والأزرق السماوى الذى كان يكسى جل مساكن الضاحية، شعرت بحسرة. هكذا يختل توازن البيئة وهكذا يبدأ الخلل فى توازنات أخرى، كتوازنات القيم والحضارة ومعايير الذوق والجمال. تأكدت الحسرة وتضاعفت أثناء مرور السيارة بشارع كنت أتعمد سلوكه لأشترى خبز يومى، وهو يخرج من الفرن ساخنا مثيرا للشهية، اختفى المخبز والمحال المجاورة، وكان بينها محل البقالة ودكان الصحف والمجلات والسجائر وقام فى مكانها سوبر ماركت من ثلاثة طوابق فى حى لا تسمح القوانين بأن ترتفع مبانيه إلى أعلى من طابقين. تقلصت تجارة التجزئة، وبتقلصها، تقلصت الطبقة الوسطى قائدة التنمية والتقدم. لا غرابة، فالعهد كان عهد الليبرالية الجديدة والرأسمالية المتوحشة بأوامر من المؤسسات الدولية.
●●●
استأنفنا حديثنا لأعرف أن تونسيين، بينهم أساتذة جامعات وسياسيون وناشطون، اكتشفوا خلال الثورة أن فى بلادهم تيارات ومذاهب دينية ظهرت فجأة وبدون مرجعيات فى تاريخ تونس القديم أو الحديث. سمعوا عن السلفية، ويُقال إن البحث جارٍ الآن عن معنى هذه الكلمة وغيرها وأصولها وعدد أفرادها ومواقعها الجغرافية والطبقية فى المجتمع، جارٍ البحث لمعرفة حجم ومصادر الأموال السائلة التى فاضت فى البلاد فى الآونة الأخيرة وبخاصة أثناء الحملة الانتخابية. جارٍ أيضا التعرف على الثروات التى هبطت فجأة على قيادات عديدة دخلت حديثا الساحة السياسية.
زال الخوف، أو انحسر، ولكن بقى هناك، كما بقى هنا، من يفضل أن يهمس فى أذنك عند الحديث عن مصادر الأموال التى وصلت سرا، ولم تزل.