كتبت من قبل عن الفارق بين الندم الإيجابى والندم السلبى مؤكدًا أن الندم الإيجابى هو أن تندم على ما فعلته أما الندم السلبى فهو الندم على ما لم تفعله، وفى الحالين يكون الاختيار البشرى هو سيد الموقف فإذا كان ذلك على مستوى الأفراد فما بالنا بالدول القائمة والنظم السياسية المؤثرة إذ إن القرار الدولى يكون له نتائجه الضخمة وآثاره الكبيرة والأمثلة على ذلك كثيرة، فامتناع العرب عن قبول قرار التقسيم عام 1948 أدى إلى نوع من الندم السلبى إذ إن تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى هو تاريخ الفرص الضائعة ما يعنى أننا لم نتمكن من حسم أمرنا واستشراف المستقبل البعيد، والقرار فى هذه الحالة يكون سلبيًا بكل المعانى، وأنا أظن أن الاختيار بين أمرين أحدهما إيجابى والآخر سلبى هو اختيار بين تقديم المصلحة العليا على المدى الطويل وبين الهروب من الواقع على المدى القصير، وما زلنا نذكر أنه حين دعيت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1978 إلى لقاء مينا هاوس بالقاهرة للاجتماع بين مندوبى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ومصر ومنظمة التحرير الفلسطينية رفض الفلسطينيون العرض وضاعت حينها فرصة لا أزعم أنها كانت مؤكدة، لكن أدعى أنها كانت ستحسب فى صالحهم على المدى الطويل، إن أسلوب الرفض الدائم للسياسات والرفض المستمر للمبادرات هو أسلوب عقيم ولا شك ورثناه عن فترة كانت فيها الأمور مختلفة، وكان للحياة فيها ما يستوعب التراخى وما يسمح بالتأجيل، فتاريخنا العربى حافل بالمواقف الاستثنائية التى عطلت المسيرة وأوقفت مسار الأحداث لعقودٍ طويلة، والعلاقة بين الندم السلبى والفرص الضائعة علاقة واضحة وليس يعنى ذلك أن كل قبول يؤدى للندم الإيجابى هو الأفضل، فالتعارض مع الثوابت والخلاف مع المصالح كلاهما يجعل للقاعدة استثناءات ولا يسمح لها بالمرور الدائم أبدًا، فليس كل ندم إيجابى أمرًا عظيمًا وليس كل ندم سلبى هزيمة نكراء، ولكن ما أريد أن أركز عليه فى هذه السطور هو أن ما يحدث حولنا يؤشر بالضرورة إلى حالة جديدة وفكر مختلف، فلو لم تقع أحداث السابع من أكتوبر 2023 فى إسرائيل ربما ما كنا نصل إلى ما نحن عليه اليوم، لكن ليس يعنى ذلك أن ذلك الحدث الضخم هو المسئول عما نحن فيه فاستمرار الاحتلال الإسرائيلى والمعاملة غير الإنسانية للفلسطينيين عمومًا هى المسئولة عن ذلك الذى جرى، فالاحتلال هو المتغير المستقل وهو السبب الأصيل لكل ما جرى، وقد كنت أتمنى شخصيًا لو أن قادة المقاومة ضد الاحتلال اجتمعوا على كلمة سواء واختاروا أسلوبًا عصريًا للمقاومة وفقًا للحالة الإسرائيلية الراهنة وتبنيها لسياسات عنصرية عدوانية تقوم على الاستيطان والتهجير القسرى والإبادة الجماعية، فلو أن قادة المقاومة تبنوا شيئًا من أساليب المقاومة لشعوب أخرى واضعين المهاتما غاندى نموذجًا مع اعترافى بأن إسرائيل كيان مختلف يصعب التعامل معه وتستحيل التسوية فى ظل سياساته، ولنا هنا ملاحظات نسوقها فيما يلى:
أولًا: إن استعراض الفرص الضائعة فى الصراع العربى الإسرائيلى تذكرنى بأول مرة سمعت فيها هذا التعبير من أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل الأسبق بالنادى الدبلوماسى بالقاهرة فى خريف 1977، وقد ألح يومها بقوة على أن الجانبين العرب واليهود قد أضاعا فرصًا للتسوية ولازلت أذكر أنه اتخذ من قرار التقسيم ورفض العرب له نموذجًا لذلك، ولا بد أن أنبه أنه ليس كل الفرص الضائعة مسئولية عربية فإسرائيل من جانبها كانت تطرح هذه الأمور كبالونات اختبار تفتقر إلى الجدية وإلى شجاعة اتخاذ القرار وجرأة تغيير المواقف، وما زلت أذكر من فترة عملى مساعدًا لوزير الخارجية عامى 1999و2000 كيف أن إيهود باراك عرض على أبى عمار ورفاقه ما يصل إلى 97% من الأراضى التى يطلبها الفلسطينيون ولا شك أن الكل يتباكى على تلك الفرصة، ولأنى شاهد حى فقد حضرت اللقاء مع رئيس الجمهورية بحضور السيد عمرو موسى، وزير الخارجية، فإن السيد شلومو بنعامى، وهو يهودى من أصل مغربى كان سفيرًا لبلاده من قبل فى مدريد، أعلن يومها أمامنا صراحة أن إسرائيل أصبحت مقتنعة بحق الشعب الفلسطينى فى دولته المستقلة على تراب أرضه الأصلية وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، ولم يكن ذلك تعبيرًا دقيقًا عن النوايا ولا تفسيرًا مباشرًا للأهداف إذ أنه لم تكن هناك خرائط محددة، وكان الطرح فى معظمه فضفاضًا وعشوائيًا لا يعبر عن شىء بقدر ما هو نوع من الدعاية المصطنعة والتخدير المستمر للعرب والفلسطينيين على حد سواء، وإرسال رسالة للعالم مؤداها أن إسرائيل معنية بالسلام فى الشرق الأوسط، وهو أمر غير حقيقى.
ثانيًا: نلفت النظر كذلك إلى ضرورة حدوث انقلاب فكرى فى العقلية العربية يدفع بمقاومة من نوع جديد يسمح بالتفاوض فى كل الظروف، فالأمم التى تحررت والشعوب التى نالت استقلالها إنما حصلت على ذلك من خلال نضالها على الجانبين المقاومة المسلحة أو معرفة الطرف الآخر بإمكانية استخدامها والقدرة عليها، إلى جانب أساليب القوى السياسية الناعمة على الجانب الآخر وفى مقدمتها التفاوض. ولذلك فإن عرفات عندما صاح بمقولته الشهيرة (لا تسقطوا غصن الزيتون من يدى) فى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إنما كان يؤكد سلمية الكفاح جنبًا إلى جنب مع الإمكانيات الأخرى عندما يقتضى الأمر ذلك.
ثالثًا: إننا نتساءل جميعًا، نحن شهود المأساة الفلسطينية حتى الآن، عن طبيعة الأجيال الجديدة وتركيبة الشعب الفلسطينى بعد سنوات قليلة حين يدرك الأطفال من أبناء الشهداء أن جرائم نتنياهو قد فاقت الحدود وأن استهانته بالدم البشرى غير مسبوقة، وأنه لا يعنيه أن يكون ما يفعله مقبولًا دوليًا أو مسموحًا به قانونيًا فكل ما يعنيه هو أن يواصل عملية ترهيب العرب والفلسطينيين حتى يستقر الخوف فى وجدانهم، وتستمر حالة الفزع من ذكريات كل ما يتصل برد الفعل الإسرائيلى أثناء الحرب على غزة واغتيال القيادات وتصفية الزعامات وتحويل دوافع النضال إلى مركبات للخوف وأسباب للهزيمة.
رابعًا: لا شك أن الأجيال الجديدة من الفلسطينيين فى سن الشباب سيدركون حين يبلغ الرضع أعمارًا تسمح لهم بمعرفة من قتل آباءهم ودمر ديارهم واستمر فى حرب بلا جدوى تمكن فيها رئيس وزراء الاحتلال من إزهاق أرواح عشرات الألوف وتحطيم كل مقومات الحياة والصورة الذهنية المحتملة للتعايش المشترك ولو بعد حين، وهو الأمر الذى انتظرناه طويلًا، وتوهمنا تحقيقه دائمًا، لكن الأمور قد جاءت بغير ذلك، ويقع العبء الأكبر على حكومة الاحتلال اليمينية الدينية ذات التوجهات المتطرفة والسياسات العدوانية، إننى أتأمل بكل أسى الأطفال الفلسطينيين والمعاناة التى يشعرون بها والمرارة الأبدية التى سوف تلازمهم بقية أعمارهم فإسرائيل قد قتلت فى بعض الأيام مئات الأطفال الرضع فى ذات الوقت وسجلت فى صحائف جرائم الحرب ما لم تسجله أى دولة أخرى أو جماعة بشرية بعد الحرب العالمية الثانية. إن أخشى ما أخشاه أن نكتشف ذات صباح أن الذى زرعته إسرائيل من جرائم ومجازر وخروقات قد أصبح راسخًا فى سجلات المنطقة، وأنه لم تعد هناك بارقة أمل ما لم يظهر فى الجانب الإسرائيلى من يقدر على تصحيح المسار ووضع الصورة فى إطارها الحقيقى، بحيث يتحول هذا الصراع الدامى إلى دافع مشترك لرؤية واحدة نحو السلام العادل الذى يقوم على الإيمان العميق بأن لكل صراع نهاية ولكل نزاع مسلح موائد للتفاوض وصياغات جديدة لحياة مختلفة تقوم على الرؤية الشاملة للأحداث والنظرة المبكرة لما هو قادم، فبدلًا من أن تتحدث إسرائيل والولايات المتحدة عن التطبيع صباح مساء عليهم أن يدركوا أن التطبيع ليس غاية فى حد ذاته لكنه وسيلة للتعايش المشترك والاستقرار الإنسانى الذى تنشده الشعوب والأمم.
نقلًا عن إندبندنت عربية