فى حوار جرى فى الفاتيكان، الشهر الماضى، بمناسبة تدشين تقرير اليوبيل عن أزمتى الديون والتنمية، كان قد كلف بابا الفاتيكان الراحل فرانسيس فريق عمل اقتصاديا وقانونيًا بإعداده برئاسة الاقتصادى الحائز على «جائزة نوبل» جوزيف ستيجليتز، أثير تساؤل عما إذا كانت القروض المتراكمة على البلدان النامية لأغراض الإنتاج أم هى للاستهلاك؟ وذلك باعتبار أن قروض تمويل الإنتاج أنفع للاقتصاد وأقدر على سداد أقساطها من عوائدها، أما إذا كانت للاستهلاك، أو لغير قطاعات الإنتاج، فستهدر بلا عائد.
وقد آلت أمور الاقتراض إلى وضع صارت فيه القروض الجديدة تُستجلب لسداد أعباء قروض قديمة، فلا هى أسهمت فى تمويل الاستثمارات المنتجة، أو شاركت فى سداد نفقات الاستهلاك. هذه من ملامح الأزمة الصامتة للديون الدولية التى جعلت المقترضين يستمرون فى حلقة الاستدانة، وإن تجاوزت خدمة الديون من الموازنات العامة ما يُنفق على التعليم والصحة، خصوصًا بعدما وصل عبء تكلفة فوائد القروض وحدها إلى ما يقترب من الضعف خلال السنوات العشر الماضية. وكأن هذه البلدان اختارت ألا تتخلف عن سداد الديون بتخلفها عن تحقيق أهداف التنمية.
وقد اشتركت أطراف متعددة فى الوصول إلى هذه الأزمة فاتبعت بلدان نامية نهج الاستدانة، بدايةً من عهد انخفضت فيه أسعار الفائدة، فلم تتحوط كما ينبغى ضد تغيّر أسعار الفائدة أو اضطرابات سعر الصرف، أو قصر آجال الاستحقاق. وكان الأولى بهذه الحكومات أن تضبط موازناتها وتحشد مواردها المحلية، وأن تعدل نموذج النمو المتبع ليعتمد على الاستثمارات الخاصة حيث تتميز وتربح، ومنها تحصّل ضرائبها، وأن تدعوها للمشاركة فى مشروعات البنية الأساسية والطاقة، التى تشكل أغلب احتياجات التمويل، بدلًا من اللجوء للاستدانة بتبعاتها.
يذكرنا مارتين جوزمان الأستاذ بجامعة كولومبيا ووزير الاقتصاد الأرجنتينى الأسبق، فى مداخلته بمنتدى باريس الذى عُقد منذ أيام، بأن المسئولية ممتدة أيضًا إلى الدائنين الذين قدموا قروضًا وهم على علم بارتفاع مخاطر عدم السداد، فبالغوا فى رفع أسعار الفائدة مقابل المخاطر، ثم تقاعسوا عن تخفيف أعباء الديون عندما صارت المخاطر واقعًا.
كما لا يمكن للمؤسسات المالية الدولية أن ترتدى مسوح البراءة، فهى ضالعة فى الأزمة شريكًا فى بطء إجراءات التسوية بين الدائنين والمدينين فى حالة إعادة الهيكلة. كما تسامحت بتوجيه تمويلها الميسر طويل الأجل لدول نامية على شفى التعثر لتستخدمها فى سداد ديون القطاع الخاص، بدلًا من التنمية.
لذا أصبح لزامًا أن تُعد إجراءات التعامل مع الديون وفقًا لعدة اعتبارات، منها ضرورة التمييز بين حالات نقصان السيولة، وحالات عدم القدرة على السداد، وكذلك هيكل المديونية وطبيعة الدائنين بين قطاع خاص وحكومى، وعلينا إدراك أن التعرض لمخاطر الديون ليس قاصرًا على البلدان منخفضة الدخل، بل تطول الدول متوسطة الدخل أيضًا، وأن من مجمل 54 دولة إفريقية هناك 31 دولة متوسطة الدخل. أخذنا هذه الأمور فى الاعتبار كمجموعة كلفها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، لوضع حلول عملية لأزمة المديونية. وضمت هذه المجموعة تريفور مانيول وزير مالية جنوب إفريقيا الأسبق، وباولو جينتيلونى رئيس الوزراء الإيطالى الأسبق، ويان وانج الأستاذة بجامعة بوسطن، وكاتب هذه السطور. راعينا أيضًا أنه لكى تتحقق الفائدة المرجوة لا ينبغى فقط تحرى السلامة العلمية للمقترح فهذا شرط ضرورى، أما الشرط الكافى فهو القابلية للتطبيق عمليًا خصوصًا فى ظل الاضطرابات الجيوسياسية. وقد انتهت المجموعة إلى المقترحات الآتية مقسمة إلى ثلاثة مستويات:
«النظام» المالى العالمى
1- التدعيم المالى لآليات إتاحة السيولة وتخفيف أعباء الديون فى البنك الدولى وصندوق النقد الدولى على أن تشمل البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل.
2- تطوير إطار مجموعة العشرين لمعالجة الديون ليشمل البلدان متوسطة الدخل، وإيقاف تحصيل الأقساط أثناء إعادة هيكلة المديونيات، مع اختصار مدد التفاوض، وتحفيز مشاركة دائنى القطاع الخاص من خلال آلية صندوق النقد الخاصة بالإقراض حال وجود متأخرات فى السداد.
3- تفعيل متوازن لإجراء إيقاف خدمة الديون فى أوقات الأزمات والصدمات المهددة للقدرة على السداد.
4- مراجعة تحليل استدامة الديون للبنك الدولى وصندوق النقد الدولي، سواء للدول منخفضة أو متوسطة الدخل.
5- إعادة توجيه فوائض حقوق السحب الخاصة غير المستغلة واستخدامها فى ضخ السيولة، وإعادة شراء الديون، وتدعيم القدرة التمويلية للمؤسسات التنموية الدولية.
التعاون الدولى خصوصًا بين بلدان الجنوب:
1- تأسيس مركز للمعلومات والدعم الفنى والابتكار المالى لتقديم النصح بما فى ذلك فيما يتعلق بآليات مبادلة الديون.
2- تأسيس منتدى للمقترضين للتشاور والتنسيق فى المحافل والمنظمات الدولية وتدعيم إمكاناتهم المؤسسية.
3- دفع قدرات وحدات إدارة الديون.
مقترحات على مستوى الدولة:
1- تدعيم المؤسسات والسياسات للتعامل مع مخاطر السيولة وأسعار الصرف والفائدة بما ذلك ضوابط الاقتراض بالعملة المحلية.
2- تطوير نوعية المشروعات القابلة للاستثمار وتعبئة الموارد المحلية والمشاركات الدولية من خلال منصات متخصصة.
3- تخفيض تكلفة التمويل والمعاملات المتعلقة بمبادلة الديون وأدوات الابتكار المالى وربطها بالسياسات العامة وخطط التنمية والتخلى عن نهج الصفقات المتناثرة.
حتى يتحقق المرجو من هذه المقترحات فى تخفيف أعباء الديون القائمة، ومنع أزمات قادمة، يجب أن تطبق بفاعلية فى إطار تعهدات التمويل التى تجرى مناقشتها مع كتابة هذه السطور فى إشبيلية بإسبانيا، من خلال فعاليات المؤتمر الدولى الرابع لتمويل التنمية.
نقلا عن الشرق الأوسط