عن نهاية «نظام» ما بعد الحرب العالمية الثانية - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الخميس 15 مايو 2025 1:06 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عن نهاية «نظام» ما بعد الحرب العالمية الثانية

نشر فى : الأربعاء 14 مايو 2025 - 9:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 14 مايو 2025 - 9:10 م

بعد مرور 80 سنة منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، انتهى غير مأسوف عليه، إلا ممن انتفعوا به، «النظام» الذى أعقب نهايتها، وقد وضعتُ كلمة النظام بين علامتى تنصيص قاصدًا تأكيد أن دلالة الكلمة تجاوزت واقع استخدامها، فالنظام يعنى «مجموعة من العناصر المترابطة التى تشكل معًا كلًا واحدًا، وتعمل جميعها كمكونات متشابكة ومترابطة وفقًا لمبادئ وآليات وإجراءات محددة»، ومن حيث الممارسة فقد كان من باب السخاء فى استخدام الألفاظ أن نعبِّر عن تلك التدابير والترتيبات، التى خطَّط لها وخطَّها المنتصرون فى الحرب العالمية الثانية، بكلمة نظام.
فالمنتصر لا يكتب التاريخ فقط، بل يحاول رسم المستقبل، فيضع له المعاهدات ويؤسس لها كيانات تنفِّذها، ويروِّج لها بأن الفوضى هى بديلها الوحيد، وقد كان للمنتصرين بقيادة الولايات المتحدة ما أرادوا، وارتضى البعض بالمتاح من القواعد طوعًا، وتعامل البعض الآخر معها كرهًا، واستمرت لعبة الأمم لأن وقفها يعنى الحرب، فكسب فى مضمارَى السياسة الدولية والاقتصاد مَن كسب، وخسر مَن خسر، حتى أتت لحظة فاصلة بأن أجادت دول نامية قواعد اللعبة فشرعت فى تحقيق فوز بعد آخر، وتحرك مركز جاذبية الاقتصاد العالمى، منذ منتصف التسعينيات، ناحيةَ الشرق بعدما استقر لفترة طويلة امتدت منذ الثورة الصناعية الأولى فى غرب العالم.
تعتمد طرق تحديد هذا المركز على عوامل، كإسهام الدولة فى الناتج العالمى، ومعدل نموها الاقتصادى، وقيمة الاستثمارات والتجارة الدولية، والقدرة على الابتكار وتطوير التكنولوجيا، وطوِّرت دراسات علمية تتبع حركة مركز الجاذبية الاقتصادية، كتلك التى أعدَّها الاقتصاديان جون مارى جريثير ونيكول ماثيس، وطوَّرها الاقتصادى دانى كواه بحصر 639 موضعًا حول العالم، ومدمجًا فى دراسته إسهامات المناطق الريفية بالإضافة إلى الحضر فى الإنتاج، ثم تبنَّت هذا مراكز أبحاث وبيوت خبرة دولية، لتبين أن مركز الاقتصاد العالمى يستمر فى التحرك شرقًا بدافع من الاستثمار فى التعليم والإنتاج ذى القيمة المضافة العالية والموارد المالية، فما حققته الصين ودول جنوب شرق آسيا والهند من طفرات فى عوامل زيادة النمو الاقتصادى لا يمكن إغفاله بحال، وكل ذلك لم يكن إلا باتباع قواعد ما بعد الحرب العالمية الثانية فى لعبة الأمم.
أثمر النمو الآسيوى وفى بلدان أخرى فى عالم الجنوب زيادةً فى الدخول ونقصًا فيمن يعانون من الفقر، فاحتفت الصين فى عام 2020 ومن بعدها الهند فى عام 2024، بالقضاء على الفقر المدقع، وهو الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة، وازداد المنتمون إلى الطبقة الوسطى فى البلدين عددًا وتمتعًا بعوائد التنمية، على مدار العقود الثلاثة الماضية، فى حين شهدت الطبقة الوسطى تراجعًا فى أوروبا والولايات المتحدة، على النحو الذى عبَّر عنه الاقتصاديان برانكو ميلانوفيتش وكريستوف لانكر فى دراسة مشهورة بشكل بيانى لمنحنى الفيل، بتتبع لتطور الدخول وتوزيعها ونموها حول العالم من عام 1988 حتى عام 2008.
يصور شكل هذا المنحنى فى قمة خرطوم الفيل أغنى 1 فى المائة فى توزيع الدخل فى العالم، وتشكل الطبقة الوسطى فى الدول ذات الأسواق الناشئة الجانب الصاعد من جسم الفيل بارتفاع معدل نمو دخولها، أما الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى فى البلدان المتقدمة فتشكل الجانب الهابط من جسم الفيل بتراجع معدل نمو دخولها، وبهذه التغيرات الاقتصادية البالغة التى تطورت لتعيد الأوزان الاقتصادية، ومعها موازين القوى الجيوسياسية ظهرت تداعيات تدافع الطموح الجامح للقوى الصاعدة، مع محاولات تمسك القوى التقليدية بمراكزها المتوارثة منذ الحرب العالمية الثانية، كما تبدَّت أوجه تذمُّر فئات فى أوروبا، خوفًا على مكاسب دولة الرفاهية التى تمتعت بها لعقود من تعليم متميز، ورعاية صحية راقية، ومنافع اجتماعية متنوعة، وتبددت لدى فئات أخرى فى الولايات المتحدة وعود الحلم الأمريكى بالثراء، وأدركت الطبقة الوسطى فى الغرب أن ما تحقق لها لن يستمر لأجيال بعدها، مع توالٍ للصدمات منذ الأزمة المالية العالمية وزيادة المديونيات والتفاوت فى توزيع الدخول والثروات.
شكَّل هذا كله بيئة خصبة للنزوع سياسيًا نحو الشعبوية والعنصرية، مع ازدياد فى تأثير اليمين المتطرف، وكانت الاختيارات فى انتخابات عامة رئاسية، وبرلمانية، لم يشكك أحد فى نزاهتها، معبرةً عن فقدان الثقة فى المؤسسات والقيادات التقليدية، وأؤكد أن المربكات الترمبية، التى يعدها البعض ثورة فاصلة لما بعدها عمَّا كان قبلها، يجب وضعها فى إطار هذا العالم شديد التغير، وأن الرئيس الأمريكى دونالد ترمب يعبِّر عن حالة سبقت وجوده فى سُدَّة الحكم وستستمر بعده، ربما بأساليب مختلفة ولكن مضمونها الجوهرى واحد، وهو أن عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، بتحالفاته وترتيباته، قد انتهى.
السؤال الحرج هو: ما عسى لبلدان عالم الجنوب، ومنها بلداننا العربية، أن تفعل؟ بداية، الفعل هو بحسن إدراك الواقع ومستجداته وما يترتب عليها، ربما يتعلق البعض بانفراجة مؤقتة تنتعش بها الأسواق بتجميد إجراءات الحرب التجارية، وإرجاء تفعيل القرارات التنفيذية بشأن التعريفة الجمركية، ربما يداعب الخيال عقول البعض بأن الانتخابات النصفية للكونجرس ستضع كوابح على التوجه الأمريكى الراهن، ربما تصبو آمال البعض أيضًا إلى أن تُبدِّل الانتخابات الرئاسية المقبلة المسار الراهن، وتعود بالأوضاع إلى ما كانت عليه.. ولكن من الآمال ما هو خطر على أصحابها إذا ما اختلطت بأحلام اليقظة وأضغاثها، أو بالتفكير بالتمنى وتضليله، وفيما هو الجدير بفعله تفاصيل أوردها فى مقال مقبل.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط

التعليقات