ما من مرة تبنّى شباب وشابات هذه الأمة، طيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الشعارات الفكرية أو السياسية والاقتصادية والثقافية التى طرحتها حضارة الغرب إلا واكتشفوا مقدار التناقضات أو الأكاذيب أو التلاعبات بوجهين متقابلين فى مسيرة طرح تلك الشعارات وتطبيقاتها فى الواقع الدولى.
لقد هلّلوا لشعار الأخوة الإنسانية الذى طرحته أفكار الأنوار ليفاجئوا بالزحف الاستعمارى الاحتلالى الغربى ليحتل أجزاءً كبيرة من وطنهم العربى، تارة باسم التمدين وتارة باسم التحديث والعصرنة.
وكان على العرب أن يدفعوا الثمن غالبًا، دمارًا وموتًا للملايين وسيلًا من صنوف التنكيل بهم وبمجتمعاتهم، من أجل أن يتخلصوا من الاستعمار والمستعمرين، وتنكشف لهم كذبة شعار الأخوة الإنسانية المطروح كغطاء للاستعمار.
كذلك رحّبوا بشعار الديمقراطية ليكتشفوا بعد حين أنه شعار منحاز، يتحدث عن الانتخابات البرلمانية وتناول السلطة المليئة بالثغرات الكثيرة، ولكنه لا يشمل عدالة توزيع الثروة ولا عدالة العلاقات الاجتماعية، ويحيل الديمقراطية إلى نظام يتعايش بسلام ووئام مع كل قباحات الرأسمالية المتوحّشة العولمية. وإذا بالعرب أمام شعار ملىء بالتناقضات فى كثير من ممارساته وتطبيقاته بالرغم من أن المستعمر كان يفاخر بأنه جاء لنشره فى كل العالم وعلى الأخص فى أرض العرب التى اعتبر تاريخها وحاضرها ليس أكثر من تعايش مع كل سلطوى واستبدادى متخلّف.
ورحّبوا بشعار الحرية وقدّسوه ليكتشفوا بعد حين أنه ينحرف إلى إعلاء إلى حدود التقديس للحرية الفردية وإنزال تدريجى لحرية وحقوق ومسئوليات المجتمع وساكنيه، لينتقلوا بعدها إلى محاولة تفريغ المجتمعات من القيم والسلوكيات الأخلاقية باسم تلك الحرية الفردية المطلقة التى شدّدوا أنه لا يحق لأحد أن يوقفها عند أية حدود.
وهكذا تتالت مثل تلك المفاجآت بالنسبة لكل شعارات أساسية أخرى من مثل شعار المقاومة. وإذا بمقاومة الاستعمار الصهيونى الاستيطانى فى فلسطين لا تعتبر مقاومة مشروعة من قبل أنظمة تلك الحضارة وإنما إرهاب يجب أن يدان ويعاقب كل من يمارسه، ثم ربطت كلمة معاداة السامية بشعار المقاومة لتجعل المقاومة العربية تبدو وكأنها حركة عنصرية ضد عرق ودين معيّن.
وكعادة الغرب الاستعمارى فى تعميم كل ظاهرة لا يرضى عنها، فإذا تحركات بعض الإسلاميين المتطرفين الخارجين على روح وسماحة الإسلام تصبح لدى الغرب حركات الدين الإسلامى المتطرف فى رسالته ومحتوياته وفى معاداة الديانات الأخرى. هكذا، وبقدرة قادر، تفنّنت بعض الأوساط الغربية فى استغلال الفرصة للتهجّم على دين الإسلام والمسلمين واعتبارهما خطرين على البشرية كلها.
اليوم نرى أمام أعيننا مهزلة موضوع امتلاك تطبيقات وعلوم الذرة. فأن يمتلك الكيان الصهيونى عشرات، وقد تكون المئات، من الأسلحة الذرية فهذا موضوع لا يهدد العالم ولا الجيران بل ولا أحد على الإطلاق، ولكن أن تحاول إيران الإسلامية امتلاك تلك الوسائل لتدافع عن نفسها فهذا محرّم ويحمل أخطارًا هائلة على العالم كله فالدين اليهودى عندهم لا يسمح بالاعتداء، ولكن الإسلام يسمح.
هذا التعامل بوجهين وميزانين غير أخلاقيين لا ترى فيه الحضارة الغربية أية غرابة. أليست السياسة المكيافيلية ذات الوجهين هى التى تحكم عقول كثير من قادتها ومؤسسات الحكم فيها؟
نأتى بكل ما سبق لا لنحاكم حضارة الغرب، فهذا أمر يخص فى الأساس شعوبها التى ستكون قادرة على تصحيح كل ذلك مستقبلًا.
وإنما لنحذر شابات وشباب هذه الأمة والمؤسسات الحاكمة على الأخص، بوجود الأخطار والتشوهات تلك الكامنة فى الشعارات التى تطرحها تلك الحضارة. إنها حضارة قد حققت تقدمًا هائلًا فى تطوير المعارف والعلوم والتكنولوجيا وكل أنواع البناء المادى، لكنها، مع الأسف الشديد، لم تحقق نفس التقدم فى حقل القيم والسلوكيات الأخلاقية الحاكمة لذلك التقدم.
ليس هذا الاستنتاج الذى نختم به هو من عندنا، إنه مبثوث فى ألوف الكتب والمصادر التى ينشرها سنويًا مفكروا وكتاب ومحلّلوا الغرب، من الذين صحت ضمائرهم وتعمّق وعيهم الإنسانى وأصبحوا يخافون على حضارتهم من الزوال إن استمرّت فى السير بدون توازن قيمى إنسانى واضح بعيد كل البعد عن الانتهازية السياسية.