السياسة الأمريكية.. من سوء تقدير إلى سوء تقدير - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:36 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسة الأمريكية.. من سوء تقدير إلى سوء تقدير

نشر فى : الخميس 2 أكتوبر 2014 - 7:55 ص | آخر تحديث : الخميس 2 أكتوبر 2014 - 7:55 ص

يوما بعد يوم نزداد اقتناعا أن دولنا العربية صارت ضحايا لسلسلة من قرارات أمريكية استندت إلى تقديرات سيئة أو خاطئة. خرج علينا الأسبوع الماضى السيد جيمس كلابر، المسئول لمرحلة غير قصيرة عن أجهزة الاستخبارات الأمريكية ليعترف بأن الحكومة الأمريكية أساءت تقدير تطورات الأمور فى سوريا خلال الحرب التى نشبت فيها، فنفذت، أو امتنعت عن تنفيذ، سياسات بنتيجة مؤداها أن أصبحت سوريا قاعدة انطلاق للجهاديين فى العالم.

•••

أخطأت الحكومة الأمريكية أيضا فى تقدير القوة الواقعية لقوى الأمن فى العراق هذا الخطأ تسبب فى الكارثة العظمى، التى حلت بالمشرق وتهدد بالانتشار فى الشرق الأوسط بأسره. صعب على شخص مثلى غير مؤهل عسكريا للحكم على قدرة جيش عربى كجيش العراق، أو غيره، على التصدى لتمرد محدود، وبخاصة بعد أن قضت الولايات المتحدة سنوات عديدة تشكل هذا الجيش من لا شىء وتدربه وتسلحه بأحدث الأسلحة وتعده ليحل محل قوات التحالف فى حفظ الأمن وحماية حدود الدولة.

يصعب على أمثالنا الذين يطالبون بقواعد ونصوص دستورية تضمن حق الشعوب العربية فى محاسبة حكوماتها حين تخطئ أو تمعن فى إنكار الخطأ، أن نفهم أو نتفهم هذه الدرجة من اللامبالاة لدى الرأى العام الأمريكى وتقاعسه عن الدعوة لمحاسبة المسئولين عن الأخطاء، التى ارتكبتها الحكومتان الأمريكيتان السابقة والراهنة. معروف أن الشعب الأمريكى لديه من الحقوق والقوانين والممارسة الديمقراطية ما يجعله الأكثر تأهيلا من كثير من شعوب العالم لمحاسبة المسئولين ومنع تكرار الأخطاء ووقف تبديد أموال دافعى الضرائب على مغامرات حربية وممارسات امبريالية جوفاء فى الخارج. هذه اللامبالاة تضاف إلى قائمة المتاعب التى تواجه الرأى العام العربى. إذ لم تعد حكومات العرب الحليفة لأمريكا مستعدة للدفاع عن سياساتها كما كان عهدنا بها فى السابق. وبخاصة بعد أن فقدت أمريكا نفسها القدرة على التصدى لهذه الاتهامات بالإقناع والدعاية والضغوط.

أعرف أنه توجد صعوبة شديدة فى إقناع قطاعات مهمة فى الشعوب العربية بالاطمئنان إلى خطة أوباما لمحاربة الإرهاب، وأستطيع أن أتفهم أسباب عدم الاطمئنان. سوريون كثيرون يسألون عن الحكمة فى القرار الأمريكى بممارسة التثاقل فى التعامل مع الحالة فى سوريا. لا يكفى لإقناع هؤلاء السوريين القول بأن الوضع فى ساحات القتال كان شديد التعقيد، وأن الدعم الروسى للأسد جمد الحركة الأمريكية، وأن بعض التنظيمات المناهضة للأسد كانت تبيت على ولاء لدولة وتستيقظ على ولاء لدولة أخرى، أو كانت معتدلة بالنهار ومتشددة بالليل. كثير من السوريين يعتقدون أن أمريكا وروسيا يتحملان مسئولية التدهور فى سوريا لأنهما كانا يعلمان بوجود تنظيمات إرهابية، ووجود داعش بالذات، ولم يقوما بالضغط على تركيا والعراق والأردن ولبنان وغيرها لوقف تسرب الإرهابيين والسلاح من خارج سوريا. هما أيضا مسئولتان لأنهما احتكرتا فى جينيف حق التفاوض باسم المجتمع الدولى. لا يفهم السوريون ولن يفهم غيرهم من العرب حجج أمريكا، ولن يقبلوا منها الاعتذار بسوء التقدير. الكل يفهم أن أمريكا ادعت ثم احتكرت حق القيادة الدولية وحق تشكيل الأحلاف وحق حماية الأمن العالمى، وبالتالى فهى تتحمل المسئولية منفردة، أو مع حلفائها الذين قبلوا طواعية السير فى ركابها. هؤلاء الحلفاء لم يفعلوا ما كان يجب أن يفعلوه وهو تنبيه القادة فى واشنطن من خلال مؤتمرات العشرين أو الأطلسى، إلى مغبة الاستمرار فى سوء التقدير وارتكاب الأخطاء.

•••

أخشى أن يوما يأتى فنسمع أمريكيا كبيرا يلقى على سوء تقدير حكومة أوباما مسئولية إشراك دول عربية فى حلف عسكرى، بينما أغلب المؤشرات تشير إلى عدم وجود نية أو إرادة قتال لدى معظم هذه الدول. بل تشير أيضا إلى نية مبيتة لدى العسكريين الأمريكيين بعدم التورط فى حرب برية فى أى صراع قادم، والعودة إلى الاعتماد على «مرتزقة « أو متطوعين أو «تنظيمات « تجند أعضاءها وتمولها سرا أو علنا الدول العربية المشتركة فى الحلف. من سيحاسب من على مقاتلين تدربهم أمريكا على قتال أصحاب فكر متشدد ومناوئ ويعودون بعد القتال عودة « الأفغان العرب « إلى أوطانهم. لم نسمع أو نقرأ عن ضمانات بعدم تكرار الكوارث الناجمة عن حرب المتشددين ضد متشددين، وحروب التطرف الدينى ضد التطرف الدينى.

•••

أتصور أن شعبية الرئيس أوباما فى العالم العربى تدنت إلى أسوأ درجاتها، وبخاصة فى جيل الشباب. الحقوقيون العرب، كغيرهم من الحقوقيين فى روسيا والصين ودول متزايدة العدد، يتعرضون لمعاملة سيئة من جانب حكوماتهم بينما تقف الولايات المتحدة عاجزة عن الاستمرار فى ممارسة الضغوط المعتادة، والأسباب معروفة أهمها النقص فى صدقية القدرة الأمريكية على تنفيذ هذه الضغوط.

من ناحية أخرى، يسخر قادة شباب وناشطون فى المجتمعات المدنية العربية من «تمجيد» الرئيس أوباما للمجتمع المدنى العربى بينما هو يتوسل إلى الحكومات العربية التى تضطهد هذا المجتمع المدنى للانضمام إلى الحلف المناهض للإرهاب. يعتقدون أن البديل الوحيد للإرهاب هو المجتمع المدنى، فإذا غاب المجتمع المدنى فلا بديل للإرهاب فى نظر العدد المتزايد من الشبان العرب المحبطين سوى حكومات متسلطة وأساليب قهر وقمع. ومع ذلك راح عدد محدود من الحقوقيين يطالب أوباما بانتهاز فرصة سعيه لإقامة حلف مناهض للإرهاب ليطالب الدول العربية التى قرر اختيارها أو التوسل إليها للانضمام إلى الحلف احترام حقوق الإنسان وضمان حريات المواطنين.

•••

سمعت أيضا من اتهم أوباما بالنفاق عندما تحدث فى خطاب له عن حقوق الإنسان والحريات فى العالم العربى وهو يعلم أن دوائر الحكم فى عدد من الدول العربية المرشحة كحلفاء تحمل أفكارا شبيهة إن لم تكن مطابقة للأفكار التى تتبناها التنظيمات الإرهابية. أسمع أيضا عن حوارات جادة فى عديد الدول العربية تحاول استقراء الوسائل التى يمكن أن يستخدمها أوباما أو من يأتى بعده لإقناع الحكومات العربية بواجب التخلص من النافذين المتشددين فى هذه الدوائر، وكذلك شن الحرب ضد الفكر المتطرف كما جاء فى وثيقة أوباما عن الحرب ضد الإرهاب. هل سيتمكن أوباما من تحقيق هذا أم أن الأمر لا يخرج فى حقيقته عن «مظاهرة» بالكلام فقط لاستدراج أمريكا للنزول من الجو والبحر إلى الأرض وممارسة القتال برجالها ونسائها وقوات رمزية من الأطلسى.

•••

وسط هذا الاضطراب العميق فى التداول حول مسيرة الحرب ضد الإرهاب كما تصورتها واشنطن، يتضح يوما بعد يوم، أن نظام الأسد عاد يحتل الوضع الأفضل فى استراتيجيات الحرب السورية، فالأمريكيون يحاربون له أعداءه، وجدران العزل والحصار تتحطم جدارا بعد الآخر، وخصومه من العرب فقدوا حرية التصرف التى اشعلوا بها حرب التنظيمات الجهادية، فضلا عن اقتناع متزايد لدى عواصم عديدة بأهمية بل ضرورة المحافظة على وحدة الكيان السورى. ومع ذلك أتصور صعوبة أن يعود النظام فى سوريا إلى سابق احتكاره للسلطة وانفراده بالحكم، سواء تطورت أمور سوريا إلى الأسوأ أو الأفضل.

•••

من سوء التقدير أيضا استمرار الحكومة فى واشنطن فى توجيه الإهانة للعرب وتعميقها كلما حانت فرصة لذلك. لقد كان رد الفعل الأمريكى المبالغ فيه على خطاب محمود عباس فى الجمعية العامة، دليلا إضافيا على أن هناك فى أمريكا، كما فى عالمنا العربى، من يظن أن فلسطين صارت تنتمى إلى عصر انقضى ولن يعود. صحيح أن الرأى العام العربى منتبه إلى حدود قصوى بأوضاع الحريات والانقسامات والشئون الجهادية والإرهابية، ولكن الصحيح أيضا أن فلسطين حية فى العقل العربى، ويخطئ فى واشنطن أو غيرها من يخطط لسياسة فى الشرق الأوسط لا تعتمد مبدأ عودة فلسطين إلى أصحابها، أو تفترض «نهاية العرب».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي