‎المَزنَق - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 10 أكتوبر 2025 11:18 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

‎المَزنَق

نشر فى : الجمعة 10 أكتوبر 2025 - 8:25 م | آخر تحديث : الجمعة 10 أكتوبر 2025 - 8:25 م


‎دار الكلامُ سِجالًا بين من يَرى فى مَوقِف حكام العَرب من فلسطين حِكمةً ورَزانة، ومن يَجِده عجزًا وهوانًا، ومن يؤكد أنه تواطؤٌ مع العدو. راح المُتحاورون يأتون فى حَماسَة بالحُجَّج والأدلة الداعمة لآرائهم، ثم احتدم النقاشُ حول السَّبب فيما آلت إليه الأمور؛ وأخيرًا علق أحدهم مُبتغيًا فضَّ الاشتباك وتقريبَ المَسافات: يا "جماعة الخُلاصةُ أننا فى مَزنَقٍ واحد".
• • •

‎المَزنَق اسمُ مكان من الفِعل زَنِق، ويدلل على مَوضِع لا مَخرَج منه، وإذا قيل زَنَق الرجلُ على عياله بفتح النون؛ فقد قتَّر عليهم ولم يترك لهم وسعًا من العيش. الفاعلُ زانقٌ، والمَفعول به مَزنوق، والمَصدَر زَنْق بتسكين النون.
• • •
‎مثلت "زنقةُ السّتات" بالمنشية أحدَ أشهر أسواق الاسكندرية وأكثرها ازدحامًا، ويقال إنه كان يعُجُّ بالتجَّار المَغاربة والليبيين عند نشأته فى القرن الماضى، وفيه كمياتٌ ضخمةٌ من المُستلزَمات والأغراضِ التى تبحثُ النساء عنها هنا وهناك، وقد شَهِد أجزاءً من حياة امرأتين؛ حظيتا على مدار عقود باهتمامٍ إعلاميّ بالغ، وبشغف هائل من الباحثين؛ إذ ارتكبتا سِلسِلةً مرعبة من الجرائم، ولا عجب أن كتبَ عنهما الراحل صلاح عيسى نصّه التوثيقيّ البديع: "رِجال ريَّا وسكينة".
• • •
‎المَزنق فى بعض الأحوال ليس مكانًا؛ إنما مَوقفٌ عَصيبٌ لا مَهرَب منه. فى مَسرحية مدرسَة المُشاغبين، راجَت عبارة: "أخوكم مزنوق" التى ألقاها بَهجَت الأباصيرى أو النَّجمُ عادل إمام، ليكرّرها من ورائه مئات آلاف المشاهدين. تبنَّت أجيالٌ متتالية الحوارات التى دارت ما بين أبطال العَرض، وجعلتها فى حُكم المأثورات؛ يُستعَان بها ما تطلَّب الأمر واستدعى السّياق، وما أغزَر المَواقف التى يُمكن أن يَستعملَ فيها المَرءُ جُملةً أو أخرى؛ تنمُّ عن وقوعِه فى ضِيقَة وحاجتِه للنَّجدة.
• • •
‎تواجِه الشُّعوبُ العَربية معظمها مَزنَقًا أخلاقيًّا عَويصًا إزاء ما يجرى على أرضِ فلسطين؛ إذ فيما تغطُّ فى نومِها، أو تشيح بوجُوهها بعيدًا عن المأساة، أو تحاول الاعتراضَ على استحياءٍ ؛ تخرجُ الجُّموع من مُختلَف الأعراقِ والقاراتِ مُنتفِضة، تضمُّ فنانين أعلنوا رفضهم العمل فى شركات ذات أصول صهيونية، وأساتذةً جامعيين واجهوا الفَصلَ من مناصبهم وأعمالهم على خلفيةِ تأييدهم للقضية، وعمَّال راحوا يعرقلون مسارَ السّلاح المتجه إلى جيش الدفاع؛ مُقدمين نموذجًا يحتذى فى مِضمَار العَمَل الميداني. المواقفُ النابعة عن الضمير ثابتةٌ رغم الإيذاءُ والتنكيل؛ خاصة وقد انجابت الغشاوةُ عن الأعين بفضل استبسال المقاومة وحِرَفيتها، وظهر الحقُّ جليًّا ناصعًا، ومِن ثمّ تحوَّل الدَّعمُ غير المَشروط للكيان المُحتلّ إلى رَفض ونَبذ واحتقَار، وسارع الناسُ إلى نُصرة وجه الإنسانية فى مُواجهة الطغيان والجنون.
• • •
‎إذا قال الواحد منا لآخر إنه فى "زنقة ما يَعلم بها إلا ربنا"؛ فتدليلٌ على شدَّتها واستحكامِها، وكذلك على قلَّة عدد من يعلمون بها. فى القَّولِ اعتذار عما بَدَر من تقصِير أو إهمال، وفى كلماتِ التآزُر والتفهُّم التى قد يقولها السَّامع بدلًا من اللوم؛ أفضل مساندة وتَطبِيب.
• • •
‎ربما يُطالَب شَخصٌ بسدادِ دَينه بينما لا يملك قيمته، فيَرجو الدائنَ الصَّبرَ متعللًا بأنه "مَزنوق اليومين دول"، وقد يعانى امرؤٌ ضِيقَ ذات اليدّ وتعثُّر أحوال المَعيشة، ويعجز عن الوفاء باحتياجاته المادية؛ فيتوجه لمن يتوسَّم فيه القُّدرةَ على المُساعدة قائلًا: "مَزنوق فى قرشين". القرشين فى أيامنا هذه قد لا يتوفَّران لدى كثيرين؛ لكن من الناس من لا يتوانى عن بذلِ العَون ومُحاولة رأبِ الصَّدع؛ ولو حرم نفسَه بعضًا مما يشتهي.
• • •
‎فى فيلم "فول الصّين العظيم" مشهد للجَّد الطاعن فى السِّن؛ وهو يحادث الشابَّ السَّاعى لخطبة حفيدته والفائز بجائزة مادية كبرى. يقول الجَّد: "أنا مَزنوق يا مُحيِي" موضحًا أنه مَدين بمبلغ ماليّ كبير يُريد اقتراضه. يوافق مُحيى بعد تردُّد؛ لكن الجَّد يفاجئه بأن "زنقته" مُجرد اختبار أخلاقى وأن مُحيى قد نجَح. الفيلم خفيف الظلّ بطولة محمد هنيدى وإخراج شريف عرفة وقد عُرِض عام ألفين وأربعة.
• • •
‎فى أغلب الأحيان، يُعبّر الصِغار عن حاجتهم المُلحَّة لقضاء الحاجة بكلمة واحدة: "مَزنوق". التعبير وافٍ بغير إضافات أو شرح، وغياب دوراتِ المياه العامة من شوارعنا أزمَة مُذِلة مُسيئة، لا تليق بشعب ذى حضارة عريقة؛ فأكم من مرضى بل وأصحاء يحتاجونها حفظًا لكرامتهم، وصونًا لحقوقهم الطبيعية الدنيا.
• • •
‎مِن الناس مًن اعتاد على التَّسَلُّل من العمل وترك ما عليه من مَهام؛ فإذا تغيرت الحالُ ولم يتمكن مِن مُمَارسة عادته واضطر للالتزام؛ تأسَّى لكونِه مزنوقًا فى الشُّغل. ربما تراكمت عليه الواجبات وكبَّلته، أو تعرَّض لرقابة لصيقة عرقلت تهرُّبه، أو ربما الأمور على ما هى عليه؛ إنما أراد اتخاذ ذريعة للتنصُّل من عبءٍ جديد.
• • •
‎بعضُ المرَّات يكون الضغطُ هائلًا والوقت ضيقًا؛ لا يكاد يَسع ما يريد المرءُ إنجازه. يَصِف حالَه آنذاك بأنه مَزنوق زَنقة الكلاب. لا يُعرَف أصلٌ مُحدَّد للوَصف؛ لكنه يُستخدَم فى مناسبات بعينها؛ كأن يَستهتِر الواحدُ بما عليه ويؤجله، أو يُماطِل فيه، ثم إذا به مُطالَب بإنهائه فى التوّ؛ وإلا نال جزاءَه وطاله الحِساب.
• • •
‎إذا زَنقَ واحدٌ الآخرَ فى الكلام؛ فالمعنى أنه حاصرَه ولم يترك له مَنفذًا. ثمَّة سياسِيُّون مَهَرة يَبرعون فى زَنْق الآخرين والحُصول على مُبتغاهم بسهولة. مَلكَة استعمال اللغة والتفاوُض ليست بالسَّبيل الوَحيد للتخلص من مَوقِف حَرِج؛ فالمَخارج التى يجدها الرئيس الأمريكى كلما صادف مزنقًا عديدة؛ يتسم أغلبها بالعبث والفجاجة، واللا مَعقولية، حتى ليستحيَ المرءُ من وصفها بالمخرج؛ فإنما هى مَغرَز أو حفرة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات