منذ سنوات عديدة قرأت مقالا فى صحيفة أمريكية يتكلم عن البحث العلمى وطرح المقال سؤالا غريبا: إذا كان العالم العظيم إسحاق نيوتن يعيش فى أيامنا هذه ويعمل أستاذا بالجامعة فهل كانت ستتم ترقيته لدرجة أستاذ؟ هذا السؤال مدخل بديع لما أراد الكاتب مناقشته، نيوتن له أبحاث فى الرياضيات وأبحاث أخرى فى الفيزياء وأخرى فى الفلسفة إلخ، هذا معناه أنه إذا كان يعمل فى قسم الفيزياء مثلا فلن يحسب القسم أوراقه العلمية فى التخصصات الأخرى، تخيل أنك فى كلية الهندسة وتقدمت للترقية بأوراق علمية بعضها فى الطب والآخر فى الفلسفة والبعض الآخر فى الهندسة، فى الغالب الأعم ستحتسب فقط الأبحاث المتعلقة بالهندسة.
منذ عدة سنوات تلقيت دعوة من قسم الصحافة فى جامعة نيويورك لحضور محاضرة ينظمها أساتذة الصحافة العلمية، المحاضر هو الدكتور هارولد فارموس، بعد المحاضرة تحدثت مع الرجل قليلا ودهشت من شىء، هذا الرجل درس الأدب الإنجليزى فى هارفارد فى الدراسات العليا، لكنه قرر أن يتجه للطب، هكذا من الأدب للطب، فى سنة 1989 حصل على جائزة نوبل فى الطب عن أبحاثه عن مرض السرطان، وأرشح بشدة قراءة مذكراته «فن وسياسة العلم»
(The Art and Politics of Science).
لا أحد يمكن أن ينسى الأستاذ الكبير هربرت سايمون الذى يعتبر من الرعيل الأول الذى وضع أسس علم الذكاء الاصطناعى وحصل على جائزة تيورنج وهى أعلى جائزة فى مجال الكمبيوتر ثم حصل على جائزة نوبل فى الاقتصاد ثم على الدكتوراه الفخرية فى القانون من هارفارد.
الفيلسوف الألمانى الكبير جوتفريد لايبنز مخترع حسابات التفاضل والتكامل فى الرياضيات (بالتزامن مع نيوتن لكن كل منهم منفردا) كان حاصلا على الدكتوراه فى القانون.
كل هذه الأمثلة وغيرها الكثير تقودنا إلى شىء مهم متعلق بالبحث العلمى وبالتعليم، التخصص مهم لكن لو زاد عن حده أصبح عقبة فى طريق الاكتشافات العلمية. كيف نعرف أنه زاد عن حده؟ عندما يكون الباحث متخصصا فى نقطة دقيقة جدا ولا يشق له غبار فيها ولا يعلم شيئا خارجها.
الاكتشافات العلمية الآن تحدث عند تلاقى عدة علوم. قد يعترض شخص ويقول نحن فى عصر التخصص ومعامل الأبحاث الآن بها علماء من مجالات عدة كل منهم متخصص فى نقطة صغيرة وأنت تريدنا أن نعرف معلومات سطحية عن العلوم؟
إذا كان كل عالم متخصص فى نقطة صغيرة لا يعرف غيرها فكيف سيتعاون مع العالم الآخر المتخصص فى نقطة أخرى؟ كيف ستوجد لغة حوار؟ إذا فلابد أن يعرف كل عالم تخصصه الدقيق بالإضافة إلى معرفة بالعلوم المحيطة بتخصصه وكيف تتفاعل تلك العلوم، لذلك لا أطالب بالمعرفة السطحية بكل العلوم، ولكن بالحذر من النظرة الضيقة للعلم.
هذه النقطة يناقشها باستفاضة كتاب نشر سنة 2019 بعنوان «النطاق: لماذا ينتصر متعددو الاهتمامات فى هذا العالَم المتخصص» أو (Range: Why Generalists Triumph in a Specialized World).
تعدد الاهتمامات ليس بالشىء السهل، فى الصغر كان يقولون لنا إنه يجب أن نعرف كل شىء عن شىء وشىء عن كل شىء، هذا شبه مستحيل فى عصرنا هذا. صعب جدا الإلمام بشىء عن كل شىء، حتى العلماء الموسوعيين لا يستطيعون ذلك، أيضا معرفة كل شىء عن شىء ليس سهلا لأن العلم فى تطور مستمر فما تخصصت أنت فيه اليوم سيتغير بعد سنوات قليلة، كمثال: بعض ما يتم تدريسه فى كليات الحاسبات فى السنة الأولى قد يصبح قديما عندما يصل الطلاب لمرحلة البكالوريوس. تخير المجالات التى ستتعلمها مهم ويجب أن تكون مرتبطة ببعضها البعض، والتخصص الدقيق لا يعنى عدم متابعة ما يجرى فى مجالك. هل من حصل على الدكتوراه من عشرين سنة مثلا وتوقف عن الاطلاع على ما يحدث فى مجاله منذ حصوله على الدرجة يجب أن نظل نطلق عليه لقب دكتور فى هذا المجال؟
بدأنا المقال بالسؤال عن ترقية نيوتن، ألم يأن للجامعات أن تفكر فى إزالة ولو جزء من الحوائط بين التخصصات وتسمح بأخذ محاضرات فى كليات أخرى وتحسب فى درجات التخرج؟ وهل الأبحاث خارج نطاق قسم معين لكن فى مجلة معتبرة لا أهمية لها؟ هذه أسئلة مطروحة للمناقشة لأن لكل اقتراح ما له وما عليه.