تكلمنا في مواضع عديدة من مقالات سابقة عن أهمية الصحافة العلمية وتوصيل العلم للعامة لأن هذا من أسس بناء المجتمع العلمي والمجتمع العلمي بجناحيه التعليم والبحث العلمي هو أهم عامل لبناء دولة قوية، في هذا المقال نستعرض مختلف أنواع الموضوعات التي يمكن أن تتعرض لها الصحافة العلمية وأهمية كل موضوع.
قبل أن نبدأ أحب أن أوضح من أقصد بالعامة، العامة ليسوا بالضرورة غير العلماء أو من لا يحملون شهادة الدكتوراه ولكن من أقصده حين أستخدم مصطلح العامة هو غير المتخصص، فلو كنت متخصصاً في الاقتصاد فأنت من العامة في التخصصات الأخرى مثل فيزياء الكم مثلاً أو هندسة الحاسبات وإذا كنت حاصلاً على الدكتوراه وتوقفت عن القراءة في تخصصك فأنت أصبحت من العامة حتى في تخصصك.. إذا فكلنا من العامة في أغلب التخصصات.
نقطة أخرى هي من يكتب للعامة؟ إنهم ليسوا العلماء فقط لأنك قد تكون عالماً ولا تحسن الكتابة للعامة، إذا فنحتاج أيضاً وبشدة خاصة في مصر الكثيرين من الصحفيين العلميين الذين يستطيعون مخاطبة العامة بطريقة شيقة ويستطيعون أن يحاوروا العلماء المتخصصين ويصيغون أفكارهم بطريق مبسطة للعامة.. والآن ما هي الموضوعات التي تتناولها الصحافة العلمية؟
أول هذه الموضوعات هي تراجم وسير العلماء سواء من المصريين أو من الدول الأخرى لأنها تساعد على التعريف بحياة الباحث العلمي وكيف يفكر، هذا بالإضافة إلى فائدته للأجيال القادمة من الباحثين فإن يساعد على تعريف البلاد بأشخاص أحرى أن يكونوا من المثل العليا والرموز لشبابنا، ولكن وجب التنبيه على شيء مهم هنا وهو أنه عندما نكتب عن أحد علمائنا يجب أن نذكر المحاسن وأيضاً بعض الأخطاء وذلك حتى تحس الأجيال الجديدة أنه بشر وله زلات ومن ثم يحاولون تقليده واتخاذه مثلا أعلى لأنك لن تستطيع أن تحاول تقليد شخص لا يخطئ فأنت لست نبيا كما أن إظهاره بشكل الإنسان الذي لا يخطئ لا تجعل الناس تصدق هذه السيرة، الأجيال الجديدة تستطيع أن تصل إلى المعلومات بسهولة لذلك المبالغة حتماً ستنكشف وهذا ما أعيب عليه مسلسلاتنا التليفزيونية التي تتحدث عن الرموز وكأنهم آلهة!
عندما تقرأ سير العلماء في أوروبا وأمريكا ستجد الكثير من الزلات والأخطاء حتى ممن حصلوا على نوبل مرتين (مثل لينوس باولينج مثلاً الذي يعتبر الوحيد الذي حصل على نوبل منفرداً مرتين: واحدة في السلام والأخرى في الكيمياء.. هناك آخرون حصلوا على جائزتي نوبل مرتين مشاركة).
ثاني الموضوعات هو تبسيط العلوم، مثلاً يجب أن يعرف الناس أهمية التغير المناخي وكيف سيؤثر على حياتهم بطريقة مباشرة وليس مجرد رفاهية علمية، يجب أن يعرف الناس معلومات عن مصادر الطاقة في العالم وكيفية تأثيرها على الاقتصاد والسياسة ومعلومات عن تدوير القمامة ومعلومات مبسطة في شتى العلوم والتكنولوجيات الجديدة، أهمية هذه المعلومات أن يحسن الناس من طريقة حياتهم بأنفسهم مثلاً بتقليل الفاقد في المياه أو استهلاك الطاقة.. إلخ، ومن الآثار الإيجابية لهذه النوعية من الموضوعات أنها ستحد من هذا الهراء الذي نراه أحياناً في بعض المواقع مثل "طفل في الإعدادية يكسر نظرية النسبية" أو "رضيع يبتكر جهازاً لتوليد الكهرباء من لا شيئ"!!
النوع الثالث من الموضوعات التي يجب طرحها هي مغامرات علمية مثل كيفية التجهيز والإعداد لإنزال مركبة على كوكب المريخ والمصاعب التقنية التي واجهة الفريق المكلف بالمهمة وأهمية هذه المهمة وشخصية كل فرد من هذه الفرقة، هذه النوعية من الموضوعات إذا كتبت جيداً تكون مشوقة للغاية وتحبب الناس وخاصة الأجيال الجديدة في العلوم فالعلم لا يجب أن يكون مملاً.
النوع الآخر وهو ما نراه في أغلب الأحيان في صحفنا التي لها صفحات تهتم بالعلم وهو الأخبار العلمية الحديثة، تتحدث هذه النوعية من الموضوعات عن أحدث الاكتشافات العلمية والتقنيات الجديدة ولي هنا ملاحظتان: الأخبار العلمية الحديثة كثيرة للغاية وتصل على مدار الساعة (طبعاً ليست كل الاكتشافات متساوية في قوتها) لذلك صفحة شهرية أو مجلة علمية شهرية لن تكفي بل أن يجب يكون هناك موقع على الإنترنت يتم تحديثه يوميا، الأمر الثاني هو عدم الاكتفاء بذكر الخبر بل يجب شرح أهمية هذا الاكتشاف والتقنية للمجتمع الإنساني وياحبذا لو أمكن شرح أهميته أو تأثيره على مصر لأنك بذلك تُشعر القارئ أنه جزء من المجتمع العلمي بدلا من أن يكف عن قراءة الموضوع ويقول "وإيه يعني" أو "وأنا مالي؟".
أعلم ما سيقوله بعض القراء: نحن لدينا مشاكل اقتصادية وتعليمية وأمنية ولا وقت لدينا لهذه "الرفاهية العلمية".. أقول لهؤلاء أن بناء مجتمع علمي وعقل مفكر يحدث حتى في أحلك الظروف لأنه مع مرور الوقت يصبح جزءا من الحل.. لا تنس أن أهم الاختراعات وُلدت من رحم الحروب.