نشرت مجلة ذى يوروبين مقالا حول ما سمته «انهيار» العولمة، حيث أوضح الكاتب هارولد جيمس فى مقاله بعض المؤشرات الدالة على إمكانية سقوط العولمة وانتهائها لأسباب عدة. وبداية، يعد الكاتب أحد أهم المؤرخين المتخصصين فى التاريخ الألمانى والتاريخ الاقتصادى الأوروبى، فهو أستاذ التاريخ فى جامعة برينستون، فضلا عن أنه أستاذ الشؤون الدولية فى جامعة وودرو ويلسون. كما أن له كتبا كثيرة عن الآثار الاقتصادية للعولمة، ودراسات حول القضايا المعاصرة المرتبطة بالعولمة.
ويشير الكاتب فى مقدمة مقاله ما احتواه كتاب «نهاية العولمة»، الذى نُشِر عام 2001، والذى تناول الروابط بين الأشكال المختلفة للعولمة، وردود الفعل عليها خلال حقبة العولمة فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، التى يُطلق عليها المؤرخون الاقتصاديون الآن «الحقبة الأولى للعولمة».
•••
ويبين الكاتب أن حرية انتقال الناس والسلع، ورأس المال أدت إلى إحلال بعضها محل البعض الآخر. حيث تمحور أول ردود الفعل حول ذلك والذى يظهر بوضوح فى الموجة المبكرة من العولمة موجها ضد حرية الانتقال، مع تزايد اعتماد أهم الدول المستقبلة للهجرة فى القرن التاسع لسياسات تقييدية. ولكن التشريع الرئيسى للسيطرة على الهجرة فى الولايات المتحدة لم يُصدر إلا بعد الحرب العالمية الأولى، مثله مثل تدابير مماثلة فى كندا وأستراليا. ومع تقييد تدفقات السكان، عانت البلدان المصدرة للهجرة إلى الخارج من زيادة الضغط على سوق العمل، مما دفع الأجور إلى الانخفاض. وكانت الاستراتيجية البديلة للتكيف عبر تدفقات الهجرة، رفعت معدلات النمو الاقتصادى نتيجة لزيادة التجارة، بحيث تعمل روابط التجارة كبديل لانتقال البشر. فعلى سبيل المثال، تُصدر دول شرق أوروبا المزيد من المنتجات إلى البلدان الصناعية الغنية، وبالتالى توظف العمال الذين لم يعد مسموحا لهم بالهجرة. وتتطلب هذه التنمية كلا من الانفتاح التجارى من جانب البلدان المتلقية، وتدفقات رأس المال لتعويض العجز فى الإدخار فى الأسواق الناشئة فى ذلك الوقت. ولكن مع زيادة الحساسية الشعبية والسياسية للتجارة فى البلدان الغنية، والاندفاع نحو الحماية التجارية، تم سد هذا الطريق للنمو.
واستجابت أسواق رأس المال إلى الديناميكية الجديدة. فعندما أصبح سداد القروض التى تدفقت إلى الأسواق الناشئة فى منتصف العشرينيات يمثل إشكالية، تجمدت أسواق رأس المال. وفى المرحلة الأخيرة من رد الفعل ضد العولمة، اجتاحت موجة من الأزمة المالية العالم فى أوائل الثلاثينيات. وفى أعقاب هذه الكوارث المالية، انتشر فى العالم مذهب مناهض للعولمة بالكامل. وكان هناك رد فعل عنيف ضد كل شكل من أشكال الحراك الدولى.
•••
ويرى الكاتب أن خطر التراجع الجذرى فى التكامل والترابط بين اقتصادات الدول أكبر بكثير الآن مما كان عليه قبل ثلاثة عشر عاما. فبعد عام 2008، ظهر إجماع جديد – مماثل لذلك الإجماع الذى نشأ ردا على الكساد الكبير فى الثلاثينيات - على أن هناك قدرا أكبر من اللازم من رأس المال يتحرك عبر أنحاء العالم، مما يهدد بعواقب تزعزع الاستقرار. ولا يمثل الرأسمال المالى الآن عامل استقرار ولكنه «سرطان» ينتشر فى صميم الرأسمالية. ومن ثم كان هناك مسار بديل للتعامل مع المشكلة، ويكمن فى الحد من المخاطر العالمية المتراكمة فى القطاع المالى. ولكنه أمر معقد، كما أن الضغط لزيادة سلامة النظام المصرفى من خلال زيادة نسب رأس المال على المدى القصير يهدد بتراجع الإقراض المصرفى وإجبار العالم على تعديل انكماشى. فضلا عن ذلك، غالبا ما يرتبط الضغط على المؤسسات المالية الكبرى للحد من المخاطر وزيادة رأس المال، بالضغط على البنوك لتقديم مزيد من التسهيلات لاقتصادات بلدانهم. ونتيجة لذلك، فقد أسفر الكساد المالى بعد عام 2008 عن تجدد النقاش حول مستقبل الرأسمالية ومبادرات تميل نحو إعادة تأميم المصارف المالية.
ويلاحظ الكاتب أن المخاوف الواسعة حول العولمة ظهرت بالفعل قبل اندلاع الأزمة المالية. فقد أعاد الاقتصاديون النظر فى تقييماتهم الوردية الأولية لتأثير العولمة على أسواق العمل فى البلدان الصناعية. ففى التسعينيات، رسمت معظم الدراسات صورة حميدة نسبيا، ولكن على مدى السنوات الخمس الماضية ظهرت تقديرات أعلى بكثير عن الخسائر فى الوظائف بسبب التجارة. وقبل عام 2007 شعر العديد من الدعاة السابقين للعولمة فى الاستثمار وفى عالم السياسة للدول الصناعية المتقدمة، بالقلق لأن العولمة بدت مسئولة فى بلدانهم عن فقدان الوظائف وانخفاض الأجور معا، فضلا عن منح مكافآت غير شرعية على ما يبدو لأصحاب الموارد الشحيحة، وبوجه خاص النجوم ذوى السمعة السيئة، مثل نجوم الرياضة أو الفن، وكبار المديرين التنفيذيين الذين يسوقون أنفسهم باعتبارهم نجوما.
•••
وحتى وقت قريب، كان يُعتقد أن أكثر آثار العولمة مأساوية تتركز فى سوق العمالة غير الماهرة، وبالتالى كان معظم مفكرى السياسة يعتبرون ببساطة أن الرد على ذلك يكمن فى التدريب الأفضل. ولكن الآن، أصبح من الواضح أيضا أن وظائف الخدمات التى تتطلب مهارة (بشكل أوضح فى برامج الكمبيوتر وأيضا فى التحاليل الطبية والتحليلات القانونية) من الممكن أيضا «الاستعانة بمصادر خارجية» للعمل فيها. وبالتالى، فإن الطبقة الوسطى الغربية العملاقة تشعر بقلق بالغ من احتمال أن تتفوق عليها الطبقة المتوسطة الأكبر و(الأكثر تحملا للعمل الشاق) فى بلدان الأسواق الناشئة. ولا تقتصر النتيجة على رد الفعل السياسى فقط، ولكن أيضا القلق الشعبى الشديد فى الدول الصناعية الغنية التى تشهد حوكمة الشركات، وانتهاكات الشركات، وتجاوزات رواتب المسئولين التنفيذيين باختصار التفاوت الجديد الذى يبدو أنه يتبع العولمة.
ويعتبر الكاتب أسباب ارتفاع التفاوت الأخير نسبيا، فى كل مجتمع صناعى تقريبا ـ على الرغم من النظم الضريبية التى تهدف إلى إعادة توزيع الدخل- أسباب معقدة، ولكنها تشمل عدم كفاية الابتكار (الذى يميل، كما يشير توماس بيكتى إلى ورثة الثروة)، وكذلك السياسات التى تؤدى بقصد أو عن غير قصد إلى زيادة التفاوت (كما فعلت السياسات النقدية والمالية التى بقت بعد الكساد الكبير حيث أدى انخفاض سعر الفائدة على القروض على وجه الخصوص إلى ازدهار الأصول والممتلكات لصالح الأغنياء جدا). ومن الأسباب المهمة للتفاوت الجديد فى الدخل، تفكك الأسر التقليدية وانخفاض حالات الزواج فى الأسر الفقيرة، مما أدى إلى خلق حلقة مفرغة من الإخفاق والحرمان. ويصعب التعامل مع التفكك الاجتماعى من خلال آليات السياسة التقليدية. وما يراه الكاتب مدهشا هنا هو أنه لم يتم بحث عدم المساواة، بشكل جيد عبر محاولات علاجه من خلال السياسة المالية.
•••
ختاما: يبدو أن العولمة تشهد تراجعا سريعا. ومن الطبيعى أن يثير رد الفعل الجديد رعب كبار رجال الأعمال، الذين يريدون وضع بعض الحلول المناسبة التى لن تضرهم كثيرا. فقد أصبحت فعاليات مثل المنتدى الاقتصادى العالمى، الذى كان ينظر إليه أنصار العولمة المتعصبون سابقا باعتباره «عيدا» ، تحفل الآن بأبحاث «نُقاد» العولمة ودعوات حول المسئولية الاجتماعية للشركات. وحتى قبل أكثر مراحل الأزمة المالية حدة، فى افتتاح المنتدى الاقتصادى العالمى عام 2008، بدأ مؤسسه وراعيه كلاوس شواب، بالقول إن «الوقت قد حان كى ندفع ثمن خطايانا»، بل إنه يصعب الآن العثور على مدافعين عن الليبرالية الكلاسيكية فى مناسبات مثل دافوس.