محور المقاومة.. وروح المقاومة - محمد إدريس - بوابة الشروق
الثلاثاء 4 فبراير 2025 7:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

محور المقاومة.. وروح المقاومة

نشر فى : الإثنين 3 فبراير 2025 - 6:50 م | آخر تحديث : الإثنين 3 فبراير 2025 - 6:50 م

 فى ١١ ديسمبر ١٩٦٤ كان أقصر خطاب فى تاريخ الأمم المتحدة. اعتلى الثائر الأرجنتينى تشى جيفارا المنصة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وفتح دفتر أوراقه ليقول: «الوطن أو الموت».. ثم يغلق دفتره ويغادر المنصة لينتهى خطابه.

ولكن جيفارا مات فى ٩ أكتوبر ١٩٦٧، وظل حيًا فى الأغنيات، وانتهى عصر الثائرين الكبار وعصر الشخصيات الملهمة، ليأتى عصر الدولارات والعولمة.

كغيرى من الملايين حول العالم تابعت مشهد عودة الفلسطينيين إلى شمال غزة المدمرة، ويا له من مشهد فارق فى لحظة فارقة، يمر بها عالم شاهد على أن الإنسان الذى أتى للأرض ليعمرها يأبى إلا أن يحولها إلى «الأرض الخراب» عنوان القصيدة الفريدة للشاعر ت. س. إليوت، الذى ولد أمريكيًا عام ١٨٨٨، وأصبح من الرعايا البريطانيين عام ١٩٢٧، وحصل على نوبل فى الأدب عام ١٩٤٨، وتوفى عام ١٩٦٥.

الفترة الماضية شهدت أحداثًا جسامًا فى تاريخ العالم وبالأخص منطقتنا الشرق أوسطية الموعودة بالجراح والعذاب.. ولكن من داخل الألم يولد الأمل.

فمشهد العائدين إلى الديار المدمرة، سيرًا على الأقدام، فى فرحة لقاء «الأرض الخراب» يجسد ببلاغة خطاب جيفارا قصير الكلمات طويل المعنى «الوطن أو الموت».

الأطفال الذين عاشوا أكثر من العام فى حياة بلا مقومات الحياة، وعادوا ببسمة الأمل، والعجائز الذين عادوا محمولين ليلقوا حتفهم فى وطنهم، والرجل الذى يرد على سائله بأنه ترك داره مع زوجته بولد واحد ليعود فَرِحًا باثنين.. كل ذلك يحفر فى النفس أخدودًا من مرارة الحياة وحلاوتها.. من الألم والأمل.

ولكن ماذا بعد؟ هل تكفى إعادة إعمار البنايات والطرقات؟ هى ضرورة، ولكن ثمة ضرورة أخرى فى إعادة بناء الرؤى والمفاهيم والاقتناعات. ليس هذا وقت معارك الماضى الذى فات، ولا تصفية الحسابات، ولكن النظر لما هو آت.

الحديث دائر والجدل محتدم حول محور المقاومة وما إن كان قد أصابه العطب أو الانهيار ومسببات ذلك ومآلاته. ولكن بعيدًا عن الهجوم بانفعال أو التبرير بافتعال، فثمة حقيقة حيّة نابضة  أهم هى أن روح المقاومة لدى الشعوب فى الذود عن الوطن لا تموت «فالوطن أو الموت».

القضايا السياسية لا يمكن أن تكون لها حلول ميثولوجية، فكل فريق له الميثولوجيا الخاصة به. طرف يعتقد أن الله وعده بالأرض التى يعيش عليها طرف آخر، وطرف يعتقد أن الله سيخسف بمن يظن أنه الموعود، وثالث يعتقد أن عليه تجميع الطرف الثانى فى أرض الطرف الأول فيقضى عليه، ليأتى المُخَلِّص ليقضى على الطرف الثانى، وتقوم القيامة على كل الأطراف. وكأن كل طرف يساعد من بيده مقاليد الكون على تحقيق مشيئته، وهو الغالب على أمره.

تبقى ساحة الحلول البشرية هى الحلول السياسية أو الدموية. وهنا الاختيار الحقيقى، بين إرادة الحياة وقوة الموت، بين قوة المنطق ومنطق القوة. والتاريخ القديم والحديث فيه الدروس والعبرة.

عندما كان عصر الاستعمار والإمبراطوريات الكبرى هو السائد، لم يدم لمن ظنوا أنهم الأسياد. عندما أعلن طلبة وعمال وفلّاحو مصر ومثقفوها أنه «الجلاء التام أو الموت الزؤام»، عندما انتفضت شعوب إفريقيا للتحرر والاستقلال، عندما ظل مانديلا فى محبسه 26 عامًا يحلم بما ظنه البعض مستحيلاً وخرج ليقود بلده، كان كل هؤلاء وغيرهم كُثر يؤكدون أنه «الوطن أو الموت». هكذا فعلت الشعوب فى مشارق الأرض ومغاربها، ومثلهم قَدَر الشعب الفلسطينى.

السلام المستدام أساسه العدل والشرعية، والمجتمع الدولى الذى نحمله دائمًا مسئولياته، ونرى أنه ينوء بحملها، قد توافق على ضرورة السلام ووَثَّق مرجعياته، وهذه قدراته فى ظل القائم وليس المأمول، وهذه هى الحلول السياسية التى يتعين على البشر فى المنطقة وخارجها العمل على تفعيلها وتنفيذها. وذلك إن كان الخيار هو خيار الحياة والسلم والأمن.

محاولات الحل بالتجاهل لم تفلح، والالتفاف حول جذور المشكلة تتساقط معه الفروع الهشة، والتهجير ليس حلًا، وتم رفضه ومخططاته القديمة والمتجددة لم تفلح ولن تفلح، والقوة تولد القوة المضادة، وواقع القهر يولد روح المقاومة مهما اختلف الشكل والزمان والمكان.

مع إعادة إعمار غزة للفلسطينيين، ثمة حاجة عاجلة لإعادة إعمار مسار جاد جديد للسلام الحقيقى العادل، يجعل الأمل فى الحياة كابح للسعى إلى الموت. قد تكون اللحظة صعبة ومعقدة ومحبطة، ولكن الهدف نبيل وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم. الأجيال الحالية ماضيها وراءها، أما الأجيال الجديدة والقادمة فلديها الزمن لتحصد ما زرعه الأولون. فالبشر من كل جنس ولون ودين احتياجاتهم التى جُبلوا عليها واحدة، ونوازعهم ودوافعهم متماثلة، وطموحهم لحياة سالمة آمنة مشترك، فعليهم نفس الواجبات ولهم نفس الحقوق، لكنها سياسة القوة تكيل بمكيالين.

الجبهات كلها واجبة التفعيل، في دولنا العربية ثمة حاجة إلى عقد اجتماعى جديد توافقى يكفل صلابة الداخل إزاء تحديات الخارج. الموقف الجماعى العربى قادر وجدير بقدر أكبر من التعاضد والتأثير. الدبلوماسية المصرية والعربية لديها خبرات معتبرة وتاريخ طويل فى التعامل مع القضية العربية المركزية، وإعادة طرح مبادرة السلام العربية ، ولو للتذكرة لعلها تنفع المتجاهلين، بقوة  وحجة تدعمها وقائع المآسي، أمام الجمعية العامة ومجلس الأمن بحضور عربى رفيع المستوى، ممكن ومفيد فى ضوء المستجدات، علما بالمحاذير والتحديات.  أما توحيد الصف الفلسطينى الذى طال انتظاره -عقب جولات تلو جولات فى مصر وروسيا والصين- فضرورة ومسئولية وطنية.

منطقيًا ثمة أربعة احتمالات؛ خيار الدولتين، أو الدولة الواحدة التى تساوى بين مواطنيها، أو الدولة  الأبارتهيد، أو اللا دولة للفلسطينيين. فى الأولَين أمل وحياة لشعوب المنطقة، وفى الأخيرين سير خطر ضد منطق التاريخ والعصر، ويضع الجغرافيا فى تضاد مزمن مع الديموجرافيا فى هذه المنطقة المنهكة، المثقلة بالتاريخ والمثخنة بالجراح، ولا يُنتج سوى الموت والدمار والخراب للجميع، لأنه سيظل دائمًا «الوطن أو الموت».

محمد إدريس دبلوماسي سابق
التعليقات