فى إحدى الجهات أكلت الغيرة شخصًا من زميله، فاتجه إلى التقول عليه، وفبركة وقائع تخصه، والإساءة لصورته أمام رؤسائه. وقد قاسى الزميل المنكوب الأمرين من وراء ذلك، وفى النهاية ظهرت الحقيقة، بعد أن واجه إيذاءً وظيفيًا ونفسيًا، وكل ما حدث هو إبعاد الشاكى الظالم عنه لا أكثر ولا أقل. كان ينبغى بالطبع محاسبة من اقترف كل هذه المظالم فى حق زميله، لكن لم يحدث ذلك، واكتفى بإبعاد الظالم دون استرداد حق المظلوم، والمبرر هو الحفاظ على الصورة العامة فى أوساط العمل.
منذ أيام تداولت مواقع التواصل الإلكترونى رسالة من شخص يشكو ظلم مديره له، وذلك قبل أن يقرر إنهاء حياته بالانتحار. أيًا كانت الملابسات التى أحاطت بهذه الحادثة التى أعادت إلى الأذهان قصة عبد الحميد شتا خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة الذى منذ نحو عشرين عامًا قرر الانتحار احتجاجًا ليس على عدم قبوله فى إحدى الوظائف ــ أظن التمثيل التجارى إن لم تَخُنّى الذاكرة ــ ولكن لأنه ذكر أمام اسمه فى كشف غير المقبولين أنه غير لائق اجتماعيًا.
هناك حالات من القهر الإدارى، أعرف جانبًا منها فى بعض المؤسسات، ترقى إلى مستوى السادية الإدارية؛ حيث يمعن المدير أو المستوى الإدارى الأعلى فى التنكيل بمن هم أقل منه فى السلم الوظيفى. أسبابها بالتأكيد نفسية، تتعلق بالعقد والتراكمات السلبية فى نفوس الناس، واستلهام نظرية الضحية والجلاد، فمن كان ضحية يومًا، يريد أن يأخذ موقع الجلاد حين تتاح له الظروف. المثال الحاضر فى ذهنى المعيد الذى يقهره أستاذه بالجامعة، يريد أن يمارس القهر على الآخرين عندما يصل إلى موقع الأستاذية، إلا من رحم ربى، وهم أهل العلم الحقيقيون، وأصحاب النفوس السوية.
هناك لحظات تمر على الناس فى وظائفهم وأعمالهم تظلم الدنيا فى عيونهم نتيجة ما يواجهون من ظلم وعنت، ولا يكون بمقدورهم دفعه عنهم السبب إما غيرة شخصية أو تعصب فكرى أو دينى أو ذكورية فاسدة أو محاباة ظالمة لمن هم أهل الثقة أو القرية الواحدة على حساب الآخرين.
ولا يقود القهر الإدارى إلى الانتحار دائمًا، بل قد يكون سببًا فى أزمات صحية، أو شعورًا مزمنًا بالكآبة، أو حالة من القهر الداخلى تلازم الشخص فى عمله.
فى الدول المتقدمة هناك قواعد تحول دون التغول الإدارى، أهمها الحد من الصلاحيات المطلقة فى يد الشخص أيًا كان موقعه، بل تكون تصرفاته وقراراته قيد المراجعة دائمًا، ويكون ثمن الخطأ أو التجاوز فادحًا كلما علا قدر الشخص أو مكانته المؤسسية.
الأمر الثانى أن تكون هناك آليات للشكاوى والمراجعة الداخلية، بما يضمن الثواب والعقاب، ولا يكفى نقل شخص من مكان لآخر كعقاب له، بل ينبغى توقيع جزاء رادع عليه.
يجب ألا تظن جهة إدارية أو مؤسسة أنها تحافظ على سمعتها وصورتها وهيبتها بالتستر على الأخطاء، فهذه ممارسات عقيمة، لا تنتمى إلى الإدارة الحديثة، بل ترتبط بثقافة العزوة والقبيلة والشعور بالعار، والرغبة فى تجميل صورة تقطر سوءًا وقبحًا.
وسوف يظل من الضرورى المراجعة النفسية للأشخاص الذين يتولون مواقع عليا أو تكون لديهم سلطة على الآخرين حتى نضمن أن تتحقق المصلحة العامة، ولا ينجرف العمل فى مستنقع تصفية الحسابات الشخصية والتنفيث المريض عن الأحقاد، وخدمة مصالح خاصة.