باسوورد - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:31 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

باسوورد

نشر فى : الخميس 3 مارس 2022 - 7:50 م | آخر تحديث : الخميس 3 مارس 2022 - 7:50 م

في هذا الوقت المبكّر من الصباح تبدو الطريق خالية من المارة أو تكاد، تتلفت صاحبتنا من حولها فلا تجد إلا بعض الشباب الذين يمارسون رياضة المشي الصباحية، فالوقت أبكر من تحرّك الطلاب والموظفين إلى مقاصدهم. مَن يرى الآن هذه الطريق لا يتصوّر أنها تستعد للتحوّل إلى سويقة تُرتَكب فيها كل المخالفات عيانًا بيانًا ويختلط فيها الناس بالدواب بالأشياء، لكن دعنا نعيش هذه اللحظة بجمالها. على الرصيف الآخر توجد ماكينة النقود التابعة للبنك الفلاني وليس أمامها أحد، تحسّست جيبها واطمأنت إلى أن به كارت الڤيزا فعبرت الطريق. أكثر ما يضايقها في عملية السحب والإيداع هو ذلك الفضول الذي يتقافز من عيون الناس في شبه الطابور الذي ينتظمون فيه، ومع أن معاملاتها المالية عادة على قدّها وليس فيها أصلًا ما يغري ويثير على المتابعة، لكنها في كل مرة وقفت أمام ماكينة البنك كانت تقرر أن تخوض حربًا تافهة من أجل إخفاء رقمها السري وقيمة المبلغ الذي تسحبه أو تودعه عن عيون المتطفلين. الحمد لله لن توجد معركة في هذا الصباح الهادئ فهي وحدها على الأقل حتى الآن. أدخَلت مطمئنة الأرقام الأربعة ٩٩١٥ التي تحفظها عن ظهر قلب فأتتها عبارة "الرقم السري الذي أدخلته غير صحيح"، لم تهتم فهذا الخطأ سببه على الأرجح نقص نسبة النيكوتين في الدم وعدم تناوُل قهوة الصباح على الريق.

أعادت المحاولة للمرة الثانية فقفزَت في وجهها نفس العبارة، نعم؟ ما هذا بالضبط؟ بدأَت تتوتر، توجد لديها فرصة واحدة فقط وبعدها ستسحب الماكينة كارت الڤيزا وسيكون عليها المرور بعدة إجراءات روتينية سخيفة لاستعادته مجددًا، فماذا تفعل؟ هل تقامر وتعيد المحاولة أم تنسحب.. انسحبَت وقصرت الشر.

• • •

طوال الطريق إلى البيت لم تكّف صاحبتنا عن القيام بعمليات تباديل وتوافيق بين الأرقام الأربعة التي يتكوّن من مجموعها الرقم السرّي فقالت ٩٩٥٢ ثم عادت فقالت ٩٩١٥ لالالا، يوجد شيء ناقص، إنها متأكدة من أن هناك ٩٩ في الموضوع ولا تتأكد من أي شيء آخر. اعتادت كثيرًا على مثل هذه المواقف بحكم تعدّد الانشغالات وتقدّم السن وعدم التركيز، فمرّات كانت تضحك من نفسها ومرات أخرى كانت تحزن، لكن هذه المرة بالتحديد أوجعتها لأن الرقم كان من السهولة بحيث لم تفكر للحظة واحدة أن تسجّله على الموبايل، كانت تثق أنه من الأرقام التي لا تُنسى لكن ثقتها جاءت في غير محلها. وبما أن هذا الرقم العشوائي هو من اختيار البنك، فسيكون عليها أن تذهب خصيصًا إلى خدمة العملاء لطلب تغييره، وهناك سين وجيم وقصة كبيرة. يووووه جاءت أول زفرة لها في هذا الصباح لتطيح بمتعة الهدوء والشارع الخالي والجو الربيعي ورياضة المشي. بدأ العدّ التنازلي وصار رمضان على الأبواب، وكلنا نعرف ماذا يعني رمضان للموظف المصري العتيد، لكن لابد مما ليس منه بد. تحدث أشياء صغيرة ليست في الحسبان لكنها تكون كافية لتغيّر مزاجنا من حال إلى حال، نعرف أنها صغيرة وربما حتى تافهة لكننا لا نملك مقاومة تأثيراتها السلبية.

• • •

في اللحظة التي تلقّت فيها الرقم السري الجديد عن طريق البريد لمعت الحقيقة في رأسها، تذكّرت بدون أي معاناة الرقم السري القديم، إنه ٩٩١٨ نعم إنه هو، ويا له من رقم له تاريخ. في يوم الأربعاء ٨ يناير ١٩٩٩ توفي والدها، فكان هذا اليوم فاصلًا بين ما قبله وما بعده. و"لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس"، هذه الآية التي راحت تلاحقها في اليوم إياه لتعلم أن هذا هو ابتلاؤها وخوفها ونقصها، ويا له من ابتلاء وخوف ونقص. تبدّلت حياتها، لم تعد آخر العنقود المدللة المسنودة المطمئنة، بل إنها جمعت نقائض كل هذه الصفات في لحظة واحدة فإذا بها تشيخ في الشكل والروح. لا تعرف كم من الوقت مضى قبل أن تدرك أن خلاصها الوحيد من هذه الذكرى هو أن تسدل عليها ستارة النسيان كما يقولون، كأن لم يكن هذا اليوم وكأنها لم تعشه أو تمر بأحداثه. وبالتأكيد لم يكن الأمر سهلًا ولا كانت ستارة النسيان كثيفة بما يكفي لتحجب عنها كل ما ينبغي عليها حجبه، أحيانًا كان يتسرّب من بين طبقاتها موقف أو نشيج أو جملة أو طقس من تلك التفاصيل الكثيرة التي اعتدنا أن نودّع بها أحباءنا والتي عاشتها بنفسها في اليوم إياه، لكن في النهاية انتصر قانون الزمن. ثم حدث ما لم تتوقعه وجاءتها الذكرى من حيث لم تحتسب، الرقم السري القديم هو نفسه التاريخ الحزين إياه، معقول؟ هل يعني هذا أن تتذكر ملابسات رحيل والدها كلما قامت بإدخال الرقم السري لكارت الڤيزا لعدة أعوام مقبلة؟ لالا.. مستحيل.. إنها ما صدقّت أن تهرب من هذه الجملة السنوية الموجعة "تعيشي وتفتكري" لأنها أبدًا لا تحب أن تعيش لتفتكر ما تتمنى أصلًا لو أنه لم يكن، فإذا بهذا الرقم السري يذكّرها بقسوة متناهية بأنه في يوم كذا من شهر وسنة كذا حدث ما حدث، مَن تراه ذلك الخبيث الذي قام بالتأليف بين الأرقام الأربعة وجمعها معًا في الباسوورد الخاص بها؟ وقعَت صاحبتنا أسيرة نظرية المؤامرة.

• • •

في كل مرة كانت تُدخل الأرقام الأربعة في ماكينة البنك كانت تسحب المبلغ الذي تريده لكن روحها كانت تُسحَب منها.. وصارت المعادلة على هذا النحو: الفلوس مقابل الحياة. في لحظة انفعال قرَرَت أن تستخرج كارتًا آخر وحدث بالفعل، لكن الأمر لم يكن يسلم فلقد كانت تحتاج للكارت إياه في بعض المعاملات وتستخدم رقمه السري، وفي لحظة أخرى فكّرت أن تطلب من البنك تغيير الرقم السري، ثم كان يمضي عليها يوم بعد الآخر وتشغلها دوامّة الحياة فلا تنفذ فكرتها، فماذا حدث إذن؟ الأرجح أن عقلها الباطن كان له ترتيبه الخاص به، فطالما هي لم تبادر بالتحرك لوقف هذا الألم المتجدّد فليضطرها إذن لذلك عقلها الباطن، وها هي قد صحت ذات يوم فإذا بالرقم الحزين قد طار من مخها تمامًا كأنها لا تعرفه وكأنه لا يخصها. إن كلًا منّا يحتفظ بآليات دفاعية داخلية تعمل كمصدّات تجنبّه الألم وتساعده على امتصاص الصدمات التي تواجهه، هي آليات تعمل تلقائيًا بالفطرة وبدونها يصعب الحفاظ على توازننا النفسي، فشكرًا لهذا التدخل المحمود الذي جاء في الوقت المناسب. 

• • •

كان كل ما في هذا الصباح الجميل يجعله يبدو عاديًا روتينيًا لا شيء خاصًا يميزه، لكن إذا به قد فاجأها مفاجأة صغيرة/كبيرة ومحا بنجاح الباسوورد إياه فلم يعد له في ذهنها أثر. ومن الآن فصاعدًا عندما تنجز معاملاتها المالية وتدفع بكارت الڤيزا إلى ماكينة النقود فإنها سوف تستخدم رقمًا سريًا غريبًا عنها، ويقال إن في الغربة أحيانًا ما يريح.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات