الرقة التي تعد كذلك - سيد محمود - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرقة التي تعد كذلك

نشر فى : الثلاثاء 3 مايو 2022 - 7:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 3 مايو 2022 - 7:30 م

أعادنى مسلسل «بطلوع الروح» إلى الرقة التى زرتها نهاية العام 2010 لحضور مؤتمر أدبى كانت تنظمه سنويا الكاتبة السورية المعروفة شهلا العجيلى لإحياء ذكرى عميد عائلتها الكاتب عبدالسلام العجيلى. 

 والعجيلى أحد أبرز كتاب القصة العرب وكان مجايلا ليوسف إدريس، ومثله أيضا جاء من الطب إلى الأدب، وقد قرأنا له المقالات والقصص التى كان ينشرها بانتظام فى مجلة الدوحة وقت أن كان يرأس تحريرها الناقد الكبير رجاء النقاش.

بقيت فى (الرقة) أسبوعا كاملا برفقة الكثير من الأصدقاء مثل هالة البدرى ومى خالد ومحمد صلاح العزب من مصر والحبيب السالمى من تونس وأحمد المدينى من المغرب وعلى بدر من العراق وعبير إسبر وعلى بدر وخليل صويلح ونبيل سليمان وسوزان خواتمى من سوريا. 

 كانت هذه الدورة هى الأخيرة بسبب الحرب. وقبلها شاركت أسماء كثيرة من مصر منها إبراهيم عبدالمجيد وسمير الفيل وياسر عبدالحافظ والناقدين حسين حمودة وخيرى دومة. الكل عاد من «الرقة» بحصيلة من الذكريات وانطباع عن بساطتها وكرم أهلها الذى كان بلا حدود.

 بدت «الرقة» أمامنا مدينة بسيطة وكريمة مثل مدننا المعاقبة، لكنها مثل يد تمتد بالعطاء، قريبة من سد الفرات وحول معصمها سوار من صحراء لا حدود لها كلما نطقت باسمها لينا، بادر أهلها بإصلاح طريقة النطق وتصحيح المفردة لتلائم بيئتها.

 يملك أهل الرقة «لكنة» ساحرة عند الحديث وارث ثقافى متنوع وطريقة فريدة فى الغناء المسكون بطبقة من الألم تمتزج مع نمط صريح من البداوة.

 خلال الأمسيات الكثيرة التى كانت تجمع الحضور بعد نهاية المناقشات وتمتد لقرب الفجر كانت تأتى امرأة لتغنى الأغنيات الفلكلورية التى يعرفها أهل الرقة، لم تكن مغنية محترفة لكنها ذات ابتسامة صاخبة لكنها تصبح وهى تغنى مثل شارل أزنافور أو أديث بياف ذات نبرة تشع من الألم تخلع القلب.

 نبرة لم يصلنى معناها الا وأنا أشاهد المسلسل الذى غمرنى بمشاعر متناقضة، واحترت ما بين الإعجاب الشديد بقدرة المخرجة الكبيرة كاملة أبو ذكرى ومعها المؤلف محمد هشام عبية على الوصول بالصورة للحالة التى عاشتها المدينة بعد أن دخلتها قوات تنظيم «داعش» وما بين الحزن العميق الذى تجدد على مصيرها بعد أن احتضنت كل هذا السواد.

 طوال السنوات التى امتدت من أعقاب الثورة السورية وحتى الآن كنت اتجنب مطالعة صور الحرب أو مشاهدة أفلام الفيديو التى تصور القتال بين الأكراد وداعش، كنت أريد لهذه المدينة التى تبقى بصورتها التى أعرفها، بل أردت لسوريا كلها أن تبقى كما أعرفها، أحدثها فى قلبى عما بيننا وتسير خطوتى فيها ك «مصافحة» بين صديقين.

 أردت لـ«الرقة» أن تظل فى حالة المساء الشتوى الذى رافقنى فى ليلتى الأولى هناك، حين خرجت إلى الشارع ومعى صلاح العزب ومى خالد، بحثا عن مصادفة لا نعرفها، فقد أردنا مطالعة وجه مدينة لم يكن فيها سوى السكينة والكثير من باعة «أبو فرو».

لم نكن نعرف أى شىء عن المدينة، لا نملك سوى اسم الفندق الذى نسكن فيه، والشارع الذى جئنا منه ومع ذلك تحركنا بالألفة التى يحتاجها القلب ليطمئن وتستند إليها القدم لكى تمضى بثقة. 

 واليوم وقد أكملت كاملة أبو ذكرى عملها الذى يحترم العقل وينتصر للأمل وينزع الصلة مع قسوة التجربة لم يبق سوى الاعتراف بأن الأوان قد آن لتشييع الصورة التى ظلت معى، فقد ولدت مدينة أخرى لا أعرفها.