دهش الكثيرون من تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلى فى حواره التلفزيونى لقناة «أى ــ 24» الإسرائيلية عن ارتباطه الوثيق بمشروع «إسرائيل الكبرى». ولعل أول أسباب الدهشة هو اعترافه بأن قبول الحلول الدبلوماسية لإنهاء حرب غزة، هو بمثابة إعلان الهزيمة لإسرائيل. فإذا كانت الهزيمة قريبة إلى هذا الحد، فما الذى يدعوه إلى الجهر بحلم الآباء والأجداد، كما سماه، والذى تتوارثه الأجيال؟ ثانى أسباب الدهشة أنه بنفسه يعرف أن مسألة استمرار الدولة ليست طبيعية، حيث قال: «جيل والدى كان عليه أن يؤسس الدولة، وجيلنا، جيلى أنا، عليه أن يضمن استمرار وجودها». هذا التناقض بين رؤية «إسرائيل الكبرى» وبين قابلية المشروع على الاستمرار هو جوهر المشكلة! فليست القوة هى أساس الاستمرار وإنما الشرعية.
لو اختصرنا مسألة الشرعية على حدود دولة إسرائيل، بمعنى الخلاف على مساحة الأرض المخصصة، لأمكن التوصل إلى السلام منذ عقود. ولكن المسألة عقائدية، حيث يؤكد رئيس الوزراء: «إذا سألتنى هل أشعر أننى فى مهمة تاريخية وروحية، فالإجابة هى: نعم. أريد دولة يهودية. وما معنى دولة يهودية؟ الأمر معقد جدًا. إنها دولة تتصرف وفق منظومة القيم الخاصة بالشعب اليهودى». ويطابق هذا الطرح نص الكتاب المقدس: «وَتَسِيرُ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ وَيَقُولُونَ: «هَلُمَّ نَصْعَدْ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ، وَإِلَى بَيْتِ إِلهِ يَعْقُوبَ، فَيُعَلِّمَنَا مِنْ طُرُقِهِ، وَنَسْلُكَ فِى سُبُلِهِ». لأَنَّهُ مِنْ صِهْيَوْنَ تَخْرُجُ الشَّرِيعَةُ، وَمِنْ أُورُشَلِيمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ (مى 4-2)».
ولكن شرعية الدولة فى المنطقة العربية لا تصطدم بديانة الدولة. فما التعقيد فى أن تنشئ دولة ما نظامها الداخلى طبقًا لشرائع أو قيم تؤمن بها؟ إنما يكمن التعقيد فى مسألة فصل الدين عن الدولة التى تُعتبر جوهر الديمقراطية، والتى تتهاوى أمام هذا السرد الذى يحاكى رؤية التيارات الدينية فى كيفية حكم الدول، ومن ثم يضع إسرائيل فى حالة تباين أو تناقض مع الرؤية الغربية!
نلاحظ هنا أن حدود الدولة طبقًا للمعتقد اليهودى، والتى بينها رئيس الوزراء قائلاً: «هذه رؤية قصوى وُعِدَت بها. وهى تشمل الأراضى الفلسطينية، وكذلك أراض فى الأردن، وسوريا، ولبنان، والعراق، ومصر، وحتى المملكة العربية السعودية. رؤية بالتأكيد جذرية، لكنها مقبولة فى النقاش العام داخل إسرائيل». معنى كلامه أن المشروع الاستيطانى الاستعمارى الصهيونى لا يختلف فى مفهومه العقائدى عن الفلسفة النازية التى اعتمدت على أفكار الآباء المؤسسين لمجال الجيوبوليتيكس، والتى كانت ترى أن الدولة عليها التوسع عن طريق التهام جوارها إذا كانت حاجتها للمقومات تقتضى ذلك من أجل البقاء. وهى رؤية تحمل اعتداء صارخًا على القواعد المؤسسة للنظام الدولى وميثاق الأمم المتحدة، القائم على احترام سيادة الدول. وأى تقويض لهذا الأساس يهدد الأمن والسلم الدوليين.
• • •
ومن ثم جاء الرد المصرى فى بيان لوزارة الخارجية تؤكد فيه: «جمهورية مصر العربية حرصها على إرساء السلام فى الشرق الأوسط، وتدين ما أثير ببعض وسائل الإعلام الإسرائيلية حول ما يسمى بإسرائيل الكبرى، وطالبت ــ بإيضاحات ــ لذلك فى ظل ما يعكسه هذا الأمر من إثارة لعدم الاستقرار وتوجه رافض لتبنى خيار السلام بالمنطقة، والإصرار على التصعيد، ويتعارض مع تطلعات الأطراف الإقليمية والدولية المحبة للسلام والراغبة فى تحقيق الأمن والاستقرار لجميع شعوب المنطقة». وأضاف البيان: «بأنه لا سبيل لتحقيق السلام إلا من خلال العودة إلى المفاوضات وإنهاء الحرب على غزة وصولاً لإقامة دولة فلسطينية على خطوط الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية على أساس حل الدولتين».
وبذلك يتضح التباين بين الرؤية الإسرائيلية العقائدية وبين الرؤية المصرية المبنية على قواعد النظام الدولى. ولذلك طلبت مصر «إيضاحات» من الجانب الإسرائيلى. وكانت أولى إشارات التراجع الظاهرى الإسرائيلى هى إزالة الجزء الخاص بـ«إسرائيل الكبرى» من تسجيل اللقاء التلفزيونى. ولكن بعد الإفصاح عن الرؤية لا يمكن إنكارها، فلقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلى: «هذه هى رؤيتى. هذا أحد الأمور التى حلمت بها. خريطة أرض الميعاد». وأضاف: «عندما تنظر إلى الخريطة، خريطة الشرق الأوسط، تجد أن إسرائيل مجرد بقعة صغيرة مقارنة بهذه المساحات الشاسعة. إنها حقًا بقعة صغيرة جدًا». هذا الكلام يضاهى بالنص ما قاله الرئيس الأمريكى الحالى أثناء حملته الانتخابية، وبعد توليه الولاية الثانية مطلع 2025.
• • •
وقبل القفز إلى الاستنتاج بأننا بصدد طموح إسرائيلى بدعم أمريكى، نتوقف أمام السؤال: ما الحجة التى يسوقها رئيس الوزراء الإسرائيلى لتحقيق هذه الرؤية؟ الشاهد أن إسرائيل تجيد خلق الذرائع والظهور فى دور الضحية. ولنعد لسردياتهم فى حرب غزة؛ فهم يقضون على حماس التى هاجمتهم، ولا ينفذون إبادة جماعية، ويفعلون المستحيل لتحرير الرهائن فى ظل احتماء حماس تحت الأرض بسكان غزة فوق الأرض. وهم لا يريدون تهجير الفلسطينيين قسريًا إلى سيناء، وإنما «طوعيًا» إلى الخارج حفاظًا على حياتهم بعيدًا عن مناطق القتال.. إلى آخر هذه الأكاذيب التى تقلب الجلاد إلى ضحية، والتى انكشفت وأدت إلى موجة جديدة من الاعتراف بدولة فلسطين من حلفاء إسرائيل. وفى سياق متصل، ساعدت إسرائيل فى سقوط النظام السورى واتخذته ذريعة للتمدد داخل سوريا بحجة حماية أمنها القومى، كما توسعت داخل لبنان بحجة طرد حزب الله من جنوب لبنان.
هذا ويستند رئيس الوزراء الإسرائيلى إلى مفاهيم سائدة فى الشارع الإسرائيلى وهو يأمر بهذه الجرائم، حيث أفصح عن ذلك فى الحوار التلفزيونى قائلاً: «أنت تسألنى إن كنت أشعر بتفويض تاريخى وروحانى فالإجابة نعم». وأضاف: «هذه هى مهمة كبرى وأنا تجندت من أجل هذه المهمة، أنا وعائلتى مع تضحيات غير بسيطة. وأعلم ما ظهر حاليًا هو أن الجيل الذى أسسناه هنا قد تجند هو أيضاً وهو يدرك ذلك جيدا». هذا التفويض الذى يتحدث عنه يسعى لتحقيق هذه النبوءة من الكتاب المقدس: «وَيَكُونُ فِى آخِرِ الأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ الرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتًا فِى رَأْسِ الْجِبَالِ، وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ التِّلاَلِ، وَتَجْرِى إِلَيْهِ شُعُوبٌ (مى 4-1)». وهم يعتبرون أنهم فقط الذين يعرفون الإله طبقًا لما يفهمونه من الكتاب المقدس: «لأَنَّ جَمِيعَ الشُّعُوبِ يَسْلُكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ بِاسْمِ إِلهِهِ، وَنَحْنُ نَسْلُكُ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِنَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ (مى 4-5)».
البعض يهون من الموضوع، ويعتبر أن تصريحات نتنياهو مجرد رد على تصريحات محافظ شمال سيناء بخصوص التهجير، وتصريحات الرئيس المصرى بخصوص الإبادة الجماعية. لكن المسألة مجرد وقت، كما تنبأ الرئيس السادات من قبل، حيث توقع أن تتجدد المواجهة ضد إسرائيل بعد نصف قرن، حين تأتى معاهدة السلام بثمارها وتتعافى الأطراف. التعافى الإسرائيلى جعلها تتوسع باتجاه الفرات. ثم أفصح رئيس الوزراء عن رؤيته التى تشمل التوسع باتجاه النيل أيضًا. والسؤال ليس عن قدرة إسرائيل، فلقد رأينا حاجتها للولايات المتحدة منذ اللحظة الأولى وصولاً إلى المواجهة ضد إيران. ولكن هل الولايات المتحدة على استعداد، أم يورطها نتنياهو؟