بينما تجرى مسابقات دورة الألعاب الأولمبية فى باريس هذه الأيام، فإن حفل الافتتاح كان ــ ولا يزال ــ مسببا للكثير من الجدل، كما أن أداء الفرق المصرية وطريقة التعاطى معها من قبل جمهور مواقع التواصل الاجتماعى ما زال هو الآخر محل تعليق واعتراض ونقد مستمر!.
فى رأى الشخصى، فإن مثل هذه الجدالات تخفى الكثير من الأمور الشائكة والحساسة أكثر مما تبديه، فالموضوع ليس مجرد حفل افتتاح مسىء للسيد المسيح، كما أن الأمر لا يتوقف فقط عند تقييم أداء الرياضيات والرياضيين المصريين فى البطولة، فهناك أزمات سياسية واقتصادية وأخرى متعلقة بالهوية تحت سطح كل هذه الجدالات وأدعى أنها أكبر من ظن البعض بكثير!.
• • •
بغض النظر عما إذا كان المشهد الجدلى الذى تم التعبير عنه فى حفل الافتتاح للدفاع عن التنوع الجندرى يسخر من العشاء الأخير للمسيح أم لا، فالحقيقة أن المسيحيين المتدينين عموما والمسيحيين منهم خصوصا تنوعت ردود فعلهم بين مؤيد يرى أن السيد المسيح لو كان موجودا فى هذا الزمان لم يكن ليمانع أبدا من الاجتماع مع الشخصيات التى مثلها المشهد الافتتاحى للأولمبياد على أساس أن المسيح هو رمز للمحبة والتقبل والتسامح مع المختلفين قبل المتفقين معه، وبين آخرين عارضوا المشهد لأن فيه تجرؤا على شخصية مقدسة كالسيد المسيح!.
نحن إذا أمام حقيقتين؛ الأولى أن هذا ليس مجرد جدل دينى ــ علمانى، ولكنه جدل هوياتى يعكس توجهات الأفراد والمجتمعات تجاه قضايا التنوع والاختلاف أكثر من كونه انعكاسا للتدين من عدمه! فكما اختلف جمهور المتدينين حول المشهد، كانت الكثير من التعليقات العلمانية أو غير المنطلقة من أرضية دينية متباينة أيضا، فهناك من رأى أن الصورة بالفعل مسيئة، وأن العلمانية وحرية التعبير لا يجب استخدامهما كمبرر للهجوم على الرموز الدينية التى تشعل مشاعر غضب المتدينين، بينما رأى آخرون أن العلمانية تعنى التحرر التام من المساحة الدينية وأن حرية التعبير لا يجب أبدا أن يتم وأدها تحت دعوى ازدراء المقدسات!.
أرى وفقا لهذه المشاهدات أننا لسنا بصدد خلاف علمانى ــ دينى تقليدى، ولكننا بصدد خلاف على الكيفية التى يرى بها الناس هوياتهم والتى تؤثر بدورها على تعريف الناس للمساحات الدينية والعلمانية، فلا علمانية واحدة ولا نمطا دينيا واحدا، لكن هناك أناسا يرون العالم من خلال زوايا دفاعية مستعدة للاشتباك مع والهجوم على ما يعتقدون أنه مؤامرات منظمة تنال من دينهم أو ثقافتهم، وآخرون يرون العالم من زاوية منفتحة ترى هذا العالم كمكان للتفاعل الإنسانى المفتوح غير المقيد! لاحظ أن الزاويتين يمكن تبريرهم أو نقدهم من منطلق علمانى أو دينى، وهذه هى تحديدا الأزمة الأعمق التى أقصدها فى هذا السياق.
أما الحقيقة الثانية، فهى خاصة بما إذا كانت فرنسا من الأصل تدافع بالفعل عن التنوع بشكل مطلق، أم تدافع عن نوع معين من «التنوع» الذى تراه مناسبا لها ويعكس ثقافتها! الحقيقة كما أراها بسيطة، فرنسا تتبع معايير مزدوجة فى الدفاع عن هذا «التنوع» المزعوم، فإذا كان التنوع الجندرى يدخل ضمن مفهوم التنوع بمعناها العام وهذا صحيح، فإن جزءا من التنوع بمعناها الأخير يجب أن يشمل أيضا الطريقة التى يعبر بها الناس عن أنفسهم من خلال الأزياء والملابس! فعندما تقوم فرنسا بمنع المحجبات من تمثيلها رياضيا، فهذا ليس دفاعا عن التنوع، بل على العكس، هو نوع من أنواع التحيز لفئات على حساب أخرى، واعتبار أن بعض الحريات يجب الدفاع عنها، وبعضها الآخر لا يجب السماح له بالتعبير عن نفسه! ولا ننسى فى النهاية أن العلمانية فى بعض التجارب لم تكن أبدا ضمانة للحرية بمعناها الواسع، فلا علمانية الصين أو الاتحاد السوفيتى أو كوريا الشمالية، أو تركيا أو تونس (فى فترات سابقة) سمحت لمثل هذه الحريات بالتعبير عن نفسها وقطعا لم تسعَ أبدا، والحقيقة أنها لم تدّعِ، للدفاع عن التنوع يوما ما! فطالما تصمم فرنسا أن هناك معنى واحدا لأن تكون «فرنسيا» والذى هو أحد التعبيرات الشهيرة عن النسخة الفرنسية من العلمانية فلا يمكن أصلا الادعاء بأنها تدافع عن التنوع!.
• • •
إذا ما تركنا حفل الافتتاح والجدل حوله جانبا وانتقلنا إلى أداء البعثة المصرية وردود فعل الشعب المصرى عليها وتحديدا على مواقع التواصل الاجتماعى، فسنجد أيضا أن المختبئ تحت السطح، أكبر بكثير مما يظهر لنا!.
دعونا أولا نوضح أنه كحقيقة تاريخية فإن أداءنا فى الأولمبياد خلال العشرين عاما الأخيرة أفضل بكثير من العشرين عاما السابقة عليها، ففى الفترة بين ٢٠٠٤ (أولمبياد أثينا) و٢٠٢٤ (أولمبياد باريس) لعبت ست دورات أولمبية شاركنا فيها جميعا، وحققت مصر ٢١ ميدالية متنوعة (بما فيها تلك التى حققناها فى سلاح الشيش منذ بضعة أيام) منها ذهبيتان وخمس فضيات و١٤ برونزية، لكن فى العشرين عاما السابقة على دورة أثينا وتحديدا منذ دورة موسكو (١٩٨٠)، وحتى دورة سيدنى (٢٠٠٠)، فقد شاركت مصر فى خمس دورات أولمبية فقط، حيث لم نشترك فى دورة موسكو استجابة لدعوة الولايات المتحدة لمقاطعة الاتحاد السوفيتى بسبب غزوه لأفغانستان فى العام السابق، ولم يحقق الرياضيات والرياضيون المصريون سوى ميدالية واحدة فقط خلال هذه الدورات الخمس كانت فضية للاعب الجودو، محمد رشوان، فى أولمبياد لوس أنجلوس! بينما لم نتمكن لأربع دورات متتالية (سول ١٩٨٨، برشلونة ١٩٩٢، أتلانتا ١٩٩٦، وسيدنى ٢٠٠٠)، من تحقيق أى ميدالية!.
علينا بالطبع فى هذه المقارنة مراعاة أن أولمبياد باريس التى حصلنا فيها على برونزية السلاح لم تنتهِ بعد وما زال من المتوقع أن نحصد عدة ميداليات أخرى! وبشكل عام وعلى مدار تاريخنا الأولمبى الممتد لأكثر من ١٠٠ عام حيث شاركنا لأول مرة بـ٣٢ رياضيا فى أولمبياد أنتويرب التى أقيمت عام ١٩٢٠، فقد حققنا ٣٨ ميدالية متنوعة منها ٢١ فى آخر عشرين عاما فقط!.
إذا بالحسابات الإحصائية، فبكل تأكيد هناك تقدم كبير، لكن أفهم أن الإحصاء ربما لا يكون كافيا للحكم، فقد تكون هناك عوامل أخرى تؤخذ فى الاعتبار مثل حجم الإنفاق على البعثات من الميزانية العامة، مقارنة بالميداليات المحققة، أو عدد الأفراد الرياضيين المشاركين، أو عدد المنافسات المتاحة... إلخ، ورغم ذلك فكيف نفسر هذا الهجوم الحاد على بعثتنا الرياضية هذا العام رغم أن البطولة لم تنتهِ بعد؟!
• • •
دعونا نتفق أنه من حق الجميع توجيه الانتقادات، ولكن هناك فارقا كبيرا بين الانتقاد والتدمير، بين الانتقاد والتنمر، والأهم بين الانتقاد وترويج الأكاذيب وترديد المعلومات الخاطئة والإصرار على نشرها!.
خلال الأيام الماضية رأينا كيف تعرضت لاعبة تبلغ من العمر ١٩ عاما فقط لهجوم مبالغ فيه لمجرد أنها وفى مشاركتها الأولى حققت مركزا متأخرا، ووصل الأمر أن وصفها كثيرون بـ«الفاشلة»، وكأن التأهل إلى الأولمبياد هو فى حد ذاته ليس إنجازا! وكأن عدم التوفيق فى المحاولة الأولى لرياضية فى هذه السن الصغيرة هو بالفعل سبب كافٍ لنعتها بالفاشلة رغم أن المستقبل ما زال أمامها طويلا!.
أو أن لاعبة أخرى تم الترويج أنها ضلت الطريق فى مسابقة التجديف، وهو ما اتضح زيفه لاحقا، لأنه لا توجد أصلا لاعبة بالاسم الذى تم ترويجه حتى تتوه أو تصل! الغريب أنه وبخصوص تلك الأكذوبة الأخيرة وحينما أوضحت لبعض الأصدقاء ممن أحسبهم من المثقفين أن المعلومة مغلوطة، لم يكتفوا فقط بالإصرار على نشرها وعدم تصحيحها، بل وذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك بالادعاء بأن اللاعبة قد تكون قد ضلت الطريق فعلا لكن اتحاد اللعبة قد أخفى الأمر حتى لا ينفضح! وكأن الاتحاد منظمة سرية تشارك فى بطولة سرية فى دولة سرية ليس لديها سجلات معلنة ومنشورة يمكن ببساطة إثبات وجود لاعبة بهذا الاسم أو لا! أو كأن أحدا من إعلام العالم المجتمع فى باريس لم يلحظ هذه اللاعبة التائهة ليكتب قصتها الطريفة، ليكون المصدر مجرد «بوست» مجهول على مواقع التواصل!.
هذا فضلا عن الحملات الذكورية ــ التى لا يمكن أن نجد لفظا دبلوماسيا لوصفها أفضل من «الجهل» ــ التى تعرضت لها لاعبة سلاح الشيش المصرية التى حققت انتصارا مهما على إحدى المصنفات العالميات فى اللعبة بعد أن عرف أصحاب الحملات أنها «حامل»، فتم اتهامها بالإهمال والأنانية وإهدار أموال الدولة، بل وذهب البعض حتى إلى اتهامها بجريمة التضحية بسلامة الجنين! وكأنها السيدة الأولى التى تلعب فى الأولمبياد أثناء الحمل! وكأن اللجان الأولمبية الطبية ليس لها معايير صارمة وقد انطبقت جميعا على اللاعبة! الأكثر سخرية هو أن البعض اتهم اللاعبة أنها حصلت على فرصة المشاركة على حساب لاعبة أخرى غير حامل كان من الممكن أن تمثل مصر، وكأنه لا توجد تصفيات لازمة للتأهل وفقط يمكنك المنافسة إن لم تكونى حاملا!
• • •
الظاهر هنا والذى يمكن استخدامه لتفسير مثل هذه التفاعلات المبالغ فيها والتى وصلت إلى حد الظلم والافتراء والجهل، هو أن هناك عدم ثقة فى المنظومة الرياضية، وخصوصا وأن قضايا مثل ظروف وفاة لاعب كرة القدم أحمد رفعت والتحقيق الذى لم تعلن نتائجه بعد بخصوص هذه الوفاة، فضلا عن حالات الاشتباه فى فساد بعض الاتحادات الرياضية أو فى سوء إدارتها، قد ساهمت فى زيادة عدم ثقة الجمهور بالمنظومة الرياضية، وهو أمر لا يخلو من الصحة فى رأيى ولكنه غير كافٍ لتفسير ما يحدث، وفى ظنى أن هناك تراكمات نفسية يعانى منها الناس بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية هى التى تساهم فى مثل هذا التشنج الذى لا يفعل شيئا سوى تدمير الذات! وهذه ظاهرة واضحة وتحتاج إلى علاج ممن يهمه الأمر!.
أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر