الشعبوية على اليسار أيضًا! - أحمد عبد ربه - بوابة الشروق
السبت 20 سبتمبر 2025 10:25 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

الشعبوية على اليسار أيضًا!

نشر فى : السبت 20 سبتمبر 2025 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 20 سبتمبر 2025 - 8:00 م


أثارت حادثة اغتيال المؤثر والناشط الأمريكى تشارلى كيرك موجة سجال وتراشق لفظى تخطت حدود الولايات المتحدة، بحيث أصبحت الحادثة وتوابعها ذات صبغة عالمية. عبَّرت ردود الفعل هذه عن الاحتقان الكبير بين كل الأطياف السياسية، وخصوصًا تلك التى تقف على أقصى اليمين فى مقابل تلك الأخرى التى تقف على أقصى اليسار، إلى الدرجة التى تجعل التمييز بين اليمين واليسار - لو نحَّينا الشعارات جانبًا وركزنا على المواقف - فى هذا التقسيم التقليدى ذى الأصول السياسية الفرنسية غير ذى معنى فى عالمنا المعاصر!
القضية هنا ليست ما إذا كنا نتفق أو نختلف مع تصريحات أو مواقف كيرك؛ فهذه التصريحات والمواقف تبقى بالنسبة للكثيرين مرفوضة، وخصوصًا أنها تقوم بتفريغ الولايات المتحدة خصوصًا والعالم الغربى عمومًا من أهم منجزاته القيمية والسياسية، ولا سيما تلك المتعلقة بقضية الديمقراطية الليبرالية التى تحمى الأقلية قبل الأغلبية وترحب بالتعدد الثقافى قبل السياسى. بالقطع كان كيرك مجرد أحد المعبِّرين عن تلك الردة الثقافية والسياسية فى الولايات المتحدة والغرب، لكن لهذا التيار اليمينى المتصاعد - بشقَّيه العلمانى والدينى - حجمًا أكبر بكثير من تصريحات أو مواقف كيرك، وليس من المبالغة أن أقول إن هذا التوجه اليمينى الشعبوى، المنحاز للرجل الأبيض دون غيره من البشر، أصبح يعبر عن موقف مؤسسى داخل بلاد العم سام، وسنرى تأثير ذلك بشكل أكثر راديكالية خلال السنوات القادمة!
إذن فموقف كيرك ليس محور النقاش، لكن اغتياله والطريقة التى عبَّر بها كثيرون عن تأييدهم أو تبريرهم لهذا الاغتيال هما لب النقاش؛ لأنه يعيدنا إلى زمن غابر يكون فيه العنف هو الأداة الوحيدة للتعامل مع المختلفين، مع موجة شعبوية تطبّع مع هذه الأساليب الإرهابية فى التخلص من الخصوم تحت دعوى أن الضحية هو من يتحمل المسئولية لا الجانى! بالطبع، موضوع العنف - سواء كان مرتبطًا بأهداف سياسية أو مجتمعية - فى الولايات المتحدة تحديدًا أكثر تعقيدًا من قضية الشعبوية، حيث إن انتشار السلاح فى أيدى عامة الناس يعبر عن موقف شعبى - ثقافى - مصلحى يضرب بجذوره فى التاريخ الأمريكى، وخصوصًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اللحظة. لكن جاء تصاعد الشعبويات على كل من يمين ويسار الطيف السياسى ليُضفِى مزيدًا من التوتر والاحتقان والاستقطاب داخل الولايات المتحدة وخارجها. نتج عن هذا الاستقطاب تطرف عابر للأيديولوجيات السياسية والاقتصادية، إلى الدرجة التى لم يعد فيها من الممكن التفريق بين اليمين الشعبوى واليسار الشعبوى، إلا بسؤال مباشر للمتحدث عما إذا كان يعتبر نفسه منتميًا لهذا التيار أو ذاك!
• • •
ليس الأمر مقصورًا على الولايات المتحدة أو حتى على الغرب؛ ففى مصر والعالم العربى، وتحديدًا منذ بداية الثورات العربية، تُظهر الكثير من التيارات اليسارية عداءً لليبرالية والتعددية رغم رفعها شعارات توحى بغير ذلك تمامًا! فرغم رفع شعارات العدالة والكرامة والحرية والديمقراطية، إلا أن معظم هذه التيارات تورَّط فى مواقف متطرفة وفوضوية لا تقل بشاعة عن تلك التى تبنتها التيارات اليمينية التى لطالما انتقدتها! ومن هنا، فربما أحد أهم الأوجه التى لم تحظَ بما يكفى من التحليل هو أن أحد أسباب فشل الثورات العربية ليس فقط «الثورة المضادة»، أو «مؤسسات الدولة العميقة»، أو «التيارات الإسلامية»، أو «الثقافة الأبوية»، أو «الطائفية”»، أو غيرها من عوامل يمكن اعتبارها بالفعل من أسباب فشل هذه الثورات فى تحقيق الانتقال الديمقراطى المنشود، ولكن بالإضافة إلى ذلك، فإن التيارات اليسارية التى تصدرت المشهد كانت فى معظمها شعبوية، تعتمد على الشعارات التى تنتزع آهات الجماهير، لكنها فى جوهرها بلا سياسات ولا مخرجات ولا حتى قدرة على إدارة الحوارات المجتمعية اللازمة لتحويل هذه الشعارات إلى سياسات تنفيذية يشعر بها رجل الشارع العادى. بعبارة أخرى، فإن واحدة من أهم أزمات الشعبوية اليسارية هى عدم الإيمان بالمؤسسات، وعدم الإيمان بالقانون أو حتى باللوائح، واعتبار كل ذلك بالضرورة تعبيرًا عن موقف سياسى محافظ! من هنا جاء فشل اليسار الشعبوى عالميًا وعربيًا، لكن حتى هذا الفشل - ورغم ادعاءات النقد الذاتى -تحول إلى عنصر لشحذ الهمم وبناء هوية جديدة قائمة على المظلومية، تحتفى بالهزيمة؛ لأن الأخيرة هى أفضل الأساليب للتهرب من المسئولية، ومن ثم رفع الحرج عن اليسار باعتباره ضحية تحاول وتقاوم، دون أن تقول لنا ما الذى تقاومه أو تحاول القيام به بالفعل!
من هنا، فلم يكن من الغريب أبدًا أن نرى بعض القيادات السياسية وهى تحتفى بأفكار ساذجة لطرق بناء الدولة، وهى تبشِّر جماهيرها بثورة قادمة - لا وجود لها على أرض الواقع - أو وهى تصنع من مجموعة من الفوضويين زعماء سياسيين قادرين على حل المشاكل المجتمعية بأفكار شديدة القذافية - نسبةً إلى الراحل معمر القذافى - تبشِّر بها كطريقة لصنع الدول والمؤسسات! لا يختلف الأمر كثيرًا لدى اليسار الشعبوى الأمريكى، ولعل هذا يكون أحد الأسباب المعتبرة لتدهور قدرة الحزب الديمقراطى على إفراز قيادات جديدة يمكنها أن تحظى بالدعم المجتمعى!
• • •
بالعودة إلى قضية اغتيال تشارلى كيرك التى بدأنا بها، فقد احتفت بعض التيارات اليسارية بالاغتيال علانية؛ حدث هذا فى مصر وفى الولايات المتحدة وفى أوروبا، بل وحتى اليسار اليابانى قد احتفى بهذا الأمر أيضًا! الملفت للنظر فى هذا الاحتفاء أن قطاعًا معتبرًا من المحتفين لم يعرف كيرك إلا بأثرٍ رجعى، ورغم ذلك فقد احتفى بهذا الاغتيال وكأنهم يعرفونه ويناظرونه منذ عقود! نحن لا نتحدث هنا عن مجرد تصرف فردى ولا حتى عشوائى، ولكنه رد فعل منظم يظهر تناقضات واضحة بخصوص قضايا ثابتة لطالما تميز اليسار بالدفاع عنها، ولا سيما القضايا الحقوقية وفى القلب منها قضايا حقوق الإنسان ورفض عقوبة الإعدام!
يرى البعض أن هذا رد فعل طبيعى على التطرف اليمينى الذى اجتاح العالم، وربما يكون ذلك صحيحًا، لكن علينا ألا ننسى أن التطرف اليمينى أيضًا يُنظر إليه كرد فعل على التطرف اليسارى. وهكذا ندخل فى حلقات مفرغة من الجدل، ولن يمكننا - إن أردنا الموضوعية - الحكم فى النهاية مَن كان الفعل ومَن كان رد الفعل، لأن كل هذه الجدالات والسجالات ليست إلا بهدف التبرير لا التفسير! المؤكد أننا ننزلق فى مستنقع فكرى متطرف يبرر العنف والتخلص من المعارضين، ينمو تدريجيًا لدى التيارات اليسارية، وهو ما من شأنه أن يدخلنا فى دوامة عنف أثبت التاريخ أن اليمين فقط هو من يستفيد منها لا غير!
• • •
فى النهاية، إذا ما خُيّر الناس غير المسيسين بين الثورة الهادرة بلا مؤسسات ولا قواعد ولا قوانين، وبين الحياة المحافظة والنظم القديمة القائمة على المؤسسات وحكم القانون، فإنهم يختارون الأخير! هذا ليس اختيارى، لكنه كان ولا يزال اختيار العامة فى مصر وتونس واليابان وأوروبا والولايات المتحدة وكندا!
إن تحول السياسات العالمية نحو اليمين السياسى والثقافى ليس من قبيل المصادفة، ولكنه تعبير عن شعور شعبى بالخوف وعدم الثقة فى الأفكار والسياسات شديدة التطرف اليسارى أو الليبرالى! حينما تفتح الحدود على مصراعيها بلا ضوابط، فأنت لا تساعد المهاجرين، بل على العكس تفتح الباب لخوف الناس وفزعهم، وهنا يجد الناس من يستغل هذا الفزع ليعدهم بغلق الحدود، فسينحاز الناس إلى غلقها، ومن ثم سيتعرض المهاجرون للمنع والتضييق! حينما تتحول قضايا المثلية من الدفاع عن الحقوق والحريات الجنسية إلى إنشاء نظام اجتماعى قانونى يؤسس الزواج والتبنى على النظام المثلى، ويجبر الجميع على الانصياع لهذه الاختيارات، وعلى الاحتفالات -بمناسبة وبغير مناسبة - بهذا النظام الاجتماعى الجديد، فإن العامة لن يرفضوا فقط زواج المثليين، ولكنهم سيعتدون على حرية المثليين وسيقومون بالتصويت أو التأييد لمن يعدهم بمنع المثلية أو العبور الجنسى!
وهنا محور القضية: نحن لسنا مدعوين للبحث عن حلول لمواجهة الشعبوية اليمينية سواء كانت دينية أو علمانية، ولكننا مدعوون لمواجهة الشعبوية غير الديمقراطية على أقصى اليمين وعلى أقصى اليسار، مع الأخذ فى الاعتبار أن تلك اليسارية أخطر على الأمن - سواء بالمعنى المحلى أو الدولى أو حتى البشرى - الإنسانى! كانت معظم التغيرات الكبرى فى حركة التاريخ على يد أفراد وجماعات يمكن وصفها بلغة اليوم بأنها يسارية؛ فإذا ما فقد هذا اليسار صوابه كما يفعل اليوم، فسيقع العالم فى فخ المحافظين الذين يحاولون دائمًا السير عكس حركة التاريخ!
أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر

أحمد عبد ربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر