هناك سؤال طُرح عبر القرون: هل على الأخلاق أن تتبع السياسة، أم أن على السياسة أن تتبع الأخلاق؟ فى الحالة الأولى تكون المبررات السياسية هى التى تحكم المواقف والقرارات والقوانين، بينما فى الحالة الثانية تكون القيم الأخلاقية هى الحاكمة للمواقف والقرارات والقوانين، حتى ولو كان ذلك على حساب منافع أو مقتضيات سياسية ملحة وضاغطة.
عبر تاريخ الفكر السياسى طرحت أسئلة فرعية كثيرة تنتمى لهذا الموضوع البالغ الأهمية.
فإذا كنا سنطلب من الفرد أن يعيش حياة أخلاقية فاضلة، فلماذا لا نطلب من الدولة وسلطاتها أن تعيش حياة أخلاقية فاضلة؟ وبالتالى، إذا كنا سنعتبر السرقة التى يقوم بها فرد قضية أخلاقية، فإن المنطق ألا نقبل بأن نصف قيام أعضاء البرلمان بالسرقة قضية سياسية، ويصفها البعض بأنها فساد سياسى، فى حين أنها رذيلة أخلاقية.
ولكن ينبرى البعض بالقول بأن مشاكل السياسة ليست دائما، ولا حتى جزئيا، نابعة من مشاكل أخلاقية، فلماذا إقحام الفلسفة الأخلاقية فى حقل الفلسفة السياسية؟ ويذكرنا هؤلاء بأنه فى حين أن الأخلاق تتطلب ألا يضار أحد فى المجتمع لأى سبب كان، فإن الضرورات السياسية كثيرا ما تفرض التضحية بالبعض من أجل مصلحة الوطن. بل ويذكرنا بما يعرف فى عالم السياسة بـ«اليد الوسخة» المتمثلة فى ضرورة الكذب وإخفاء الأسرار وأحيانا ضرورة التجسس على هذه الجهة أو تلك، وهى بالطبع ممارسات لا تقرها الفلسفة الأخلاقية.
***
نحن أمام موضوع ليس بالأكاديمى ولا بالفلسفى كما توحى تلك المقدمة. إنه موضوع الساعة فى أرض العرب، فى هذه اللحظة التى يعيشها العرب. وهو موضوع يتحدى كتاب السياسة وممارسيها على المستويين الحكومى والمدنى.
ذلك أنه باسم الواقعية، وباسم إعلان موت عصر اليوتوبيات والأيديولوجيات، يتخطى البعض الخطوط الحمر القومية وتنقلب الحياة السياسية إلى ممارسات انتهازية لا تخضع إلا لمعايير النفعية والاصطفافات الطائفية والتحالفات مع الخارج. من هنا غياب المعايير الأخلاقية، إضافة لغياب المعايير القومية والأخوة الإسلامية والمسيحية، فى التعامل مع السلطات الصهيونية فى فلسطين المحتلة وأنظمة استخباراتها.
من هنا أيضا التأييد بالمال والسلاح والتدريب لقوى تكفيرية تستبيح لأغراض وتقتل الأبرياء وتشوه براءة الطفولة.
من هنا أيضا التطبيق لأفكار مكيافيلى الشهيرة التى شرعت بأن الغاية فى السياسة تبًرر الوسيلة، وسيلة المناورة البارعة اللاأخلاقية والتى يجب أن يكون هدفها الأساسى الحفاظ على الأمن والنظام، أى الاستقرار السياسى، حتى لو كان ذلك على حساب كرامة البشر وحقوقهم الإنسانية والعدالة فى توزيع الثروة والسلطة والمكانة.
من هنا فاجعة ارتداد بعض المفكرين والمناضلين القدامى، ممن رفعوا رايات أحلام أمتهم فى وحدتها وتحررها وعدالة مجتمعاتها، الذين تبنوا ما اعتبروها الواقعية العاقلة الناضجة، واللاأخلاقية فى كثير من جوانبها، وبذلك خانوا أحلام وآمال أمتهم وخانوا ضمائرهم.
تلك، وغيرها كثير، ظلال قاتمة فى مرآة الواقع السياسى العربى. إنها انعكاس لأزمة أخلاقية ضميرية تسمح لأن تصافح الأيدى العربية من تلطخت أياديهم بدماء شعب العراق من أمثال تونى بلير وجورج بوش، وتسمح بأن يجلس بعض المسئولين العرب مع مجرمين صهاينة من أمثال نتانياهو، ممن قلبوا فلسطين إلى أرض الدماء والدموع والخراب والسجن الكبير.
هكذا تتجاهل قيمة أخلاقية تتمثل فى التعاضد الإنسانى ويداس على قيمة أخلاقية وطنية تتمثل فى الانتصار للأخ المظلوم والمنكوب. ويزيد من فداحة الأمر أنه فى الوقت الذى يداس فيه على تلك القيم فى أرض العرب تزداد الأصوات المطالبة بأخذها بعين الاعتبار وتفعيلها على الأخص بالنسبة لقضية فلسطين، وذلك عبر الكثير من بلدان غير العرب.
***
يستطيع الإنسان أن يتفهم ظروف العجز عند هذا النظام العربى أو ذاك، ويستطيع تقدير ضرورة استعمال أسلوب الأخذ والعطاء فى الساحات الدولية، وبالتالى يستطيع الإنسان تفهم عدم قدرة الأنظمة العربية على المقاومة والرفض بالنسبة لكثير من قضايا العرب. فالمآسى التى يعيشها العرب شلَّت الإرادة وأضعفت القدرات. لكن ما لا يمكن فهمه هو حجم التخلى، وتبرير ذلك التخلى، عن أقدس القيم الأخلاقية الفاضلة فى التعامل مع الكثير من الملفات السياسية فى وطن العرب باسم الواقعية وقلة الحيلة.