يعتقد الكثير من الخبراء أن العلاقات الاستراتيجية القائمة منذ ثمانية عقود بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية تتعرض لاختبار عنيف، قد يهز ثوابت العلاقة الخاصة الممتدة والتى صمدت أمام عواصف كبيرة منها أزمة حرب أكتوبر 1973، وأزمة 11 سبتمبر فى عام 2001، وأزمة مقتل الكاتب الصحفى جمال خاشقجى. عقب دفع السعودية لخفض إنتاج النفط بمليونى برميل يوميا قبل شهر فى تحالف أوبك ــ بلس، وهو ما اعتبرته واشنطن طعنة فى الظهر للرئيس جو بايدن وحزبه الديمقراطى، ودعما غير مباشر للحزب الجمهورى، وللرئيس الروسى فلاديمير بوتين، قرر البيت الأبيض إجراء مراجعة شاملة لعلاقات الولايات المتحدة مع السعودية.
إلا أننى أعتقد أن هذه المراجعة، حال حدوثها، لن تفضى إلا التأكيد على ثوابت العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين اللتين تحتاجان بعضهما البعض فى عالم سريع التغير، لا يعانى من أى نقص فى الأزمات الدولية.
• • •
من ناحية بدأت مشاكل الرئيس بايدن مع السعودية مبكرا وقبل أن يصل للبيت الأبيض، فخلال حملته الرئاسية تعهد بايدن نفسه، بجعل المملكة العربية السعودية «دولة منبوذة»، وقال بايدن «أود أن أوضح تماما أننا لن نبيع لهم المزيد من الأسلحة، سنجعلهم فى الواقع يدفعون الثمن ونجعلهم فى الواقع منبوذين كما هم. وهناك القليل جدا من القيمة الجيدة فى الحكومة الحالية فى المملكة العربية السعودية». وكانت تلك كلمات عنيفة بمعايير الانتقاد المستمر للسعودية داخل العاصمة واشنطن من مختلف ألوان الطيف السياسى الأمريكى.
من جانبه، وقبل وصول بايدن للحكم، شخصن ولى العهد السعودى محمد بن سلمان علاقات بلاده الاستراتيجية مع واشنطن بعلاقات شخصية مع عائلة الرئيس السابق دونالد ترامب. واستثمر بن سلمان الكثير من رأس ماله السياسى والنقدى فى دعم صهر الرئيس السابق وكبار مساعديه، على أمل الدعم السياسى المستقبلى.
• • •
تعهد بايدن بعد وصوله للحكم بتقليل الاعتماد على البترول، وبعد اندلاع أزمة غزو روسيا لأوكرانيا واضطراب أسواق الطاقة العالمية، وارتفاع الأسعار الذى طال المستهلكات والمستهلكين الأمريكيين قبل أسابيع من الانتخابات النصفية، اضطر بايدن لزيارة السعودية ولقاء بن سلمان فى مدينة جدة الساحلية.
وجاء قرار السعودية محبطا بصورة كبيرة لبايدن، الذى طالما روج للبدائل الخضراء بدلا من الوقود الأحفورى. فى الوقت ذاته اهتم السعوديون بأسعار النفط لتمويل مشروعات بن سلمان الطموحة. ومع تبنى إدارة بايدن سياسات للتحول السريع من الوقود الأحفورى للبدائل الخضراء، كان من حق الرياض التركيز على الحصول على أعلى سعر ممكن للكمية المحدودة من النفط التى سيكونون قادرين على بيعها خلال السنوات القادمة.
تخشى واشنطن من ارتفاع جنونى فى أسعار النفط بعد 5 ديسمبر المقبل، إذا قررت روسيا التوقف عن ضخ النفط أو إذا نفذت أوروبا تهديدها بحظر واردات الخام الروسى عن طريق البحر بعد 5 ديسمبر القادم، فقد ترتفع الأسعار بصورة لا يتخيلها أحد.
وكانت الدول الكبرى السبع، ودول الاتحاد الأوروبى قد اتفقت على حظر الاتحاد الأوروبى واردات الخام الروسية المنقولة بحرا فى 5 ديسمبر وبقية المنتجات النفطية الروسية كلها فى 5 فبراير 2023.
• • •
حاول بايدن وفشل فى خفض أسعار الطاقة فى الولايات المتحدة عن طريق السحب من مخزون الاحتياطى النفطى الاستراتيجى الأمريكى فى محاولة عبثية لكسب أصوات الناخبين والناخبات فى انتخابات الأسبوع المقبل. وأنشئ الاحتياطى النفطى الاستراتيجى فى عام 1975 لحماية الولايات المتحدة من اضطرابات الإمدادات المفاجئة عقب أزمة حرب أكتوبر 1973، ووصل المخزون لأدنى حجم له منذ 40 عاما. وفى الأشهر الأخيرة، سحب الرئيس ما يقرب من ثلث ما كان يحتويه عندما تولى منصبه.
لا يعرف أحد كيف يفكر بن سلمان بالنسبة لمستقبل تسعير وإنتاج النفط على المدى القصير، وسيجتمع كارتل أوبك ــ بلس فى 4 ديسمبر المقبل، أى قبل يوم واحد من دخول الحظر، الذى هددت به أوروبا على استيراد أو تمويل أو تأمين شحنات النفط الروسية، حيز التنفيذ.
• • •
لن تلتئم جراح العلاقات الأمريكية السعودية قريبا، خاصة بعدما خرجت تفاصيل الخلاف للعلن.
يعتقد السعوديون أن بايدن استمر فى النيل من ولى العهد حتى بعد وصوله للبيت الأبيض، كما أن بايدن خفض مبيعات الأسلحة إلى الرياض، وأخرج جماعة الحوثيين اليمنية المدعومة من إيران من قائمة الإرهاب الأمريكية، فى الوقت الذى يحاول فيه إحياء الاتفاق النووى مع إيران، عدو السعودية اللدود.
وقبل أيام أكد متحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى أن الجيش فى حالة تأهب قصوى لهجوم إيرانى وشيك محتمل على المملكة العربية السعودية.
• • •
يؤمن بعض الحكماء فى واشنطن أن خطاب ولغة الخلاف الأمريكى السعودى خرجت عن السيطرة، وهناك حاجة إلى وقفة صارمة تمنع استمرار التدهور فى علاقات الدولتين. وتشترك واشنطن والرياض فى الحفاظ على مصلحة أمن الشرق الأوسط وإمدادات النفط، وقضايا أمن الخليج بصفة عامة.
ولا يعتقد الخبراء السعوديون أنه يمكن أن يكون توثيق العلاقات مع الصين وروسيا بديلا للمظلة الأمنية الأمريكية، ولا يعتقد الخبراء الأمريكيون أن الطاقة الخضراء جاهزة لتحل محل النفط فى أى وقت قريب. كما تؤمن النخبة السعودية بجاذبية النموذج الأمريكى علميا وتعليميا واقتصاديا وعسكريا واستثماريا مقارنة بنظيره فى روسيا أو الصين، من هنا ترتبط النخبة السعودية بالولايات المتحدة بصور معقدة وقوية.
ومع توقع استمرار تشدد حكام الرياض وواشنطن، لم يعد يبقى للحفاظ على استراتيجية العلاقات إلا التطلع لتغيير فى البيت الأبيض أو بيت الحكم السعودية، وقد توفر انتخابات 2024 فرصة للحفاظ على علاقات استثمر فيها الطرفان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.